الثلاثاء، 17 يناير 2012

الفصل الخامس: موقف الغرب ( المسيحية الساسية) من الإسلام (2) مختصر عن الحروب الصليبية حادي عشر صدام الصليبيين مع السلاجقة الروم

 الفصل الخامس:
موقف الغرب ( المسيحية الساسية) من الإسلام
(2) مختصر عن الحروب الصليبية
حادي عشر صدام الصليبيين مع السلاجقة الروم

كان قلج أرسلان سلطان السلاجقة في آسيا الصغرى يتخذ من مدينة نيقية الحصينة عاصمة له، ومن ثَمَّ فالقوة الرئيسية لجيشه كانت بها؛ ولهذا فقد قرَّر الصليبيون أن يبدءوا بهذه المدينة لكي لا يتركوا خلفهم هذه القوة الكبيرة، ولكي لا يقطعوا على أنفسهم خطوط الإمداد البيزنطية، ومن ثَمَّ توجهت الجيوش الصليبية الغفيرة، ومعها فرقة صغيرة من الجيش البيزنطي لحصار المدينة المسلمة، وقد أمدَّ الإمبراطور البيزنطي الجيوش الصليبية في هذه الموقعة بآلات الحصار الضخمة وكثير من السلاح، وبدأ التوجه إليها في 490هـ - أواخر إبريل سنة 1097..

حصار نيقية

أين كان قلج أرسلان الأول في ذلك الوقت ؟!
السلطان قلج أرسلان
إنه يجدر بنا قبل أن نعرف مكانه أن نأخذ فكرة عن شخصيته ومكانته ! إنه واحد من أهم السلاجقة في تاريخ آسيا الصغرى، لا لشخصيته ومكانته فقط، ولكن للأحداث الضخمة التي حدثت في عهده وغيَّرت خريطة المنطقة تغييرًا جذريًّا، إنه ابن سليمان بن قُتُلْمِش أعظم سلاجقة الروم ومؤسِّس دولتهم، وقد ورث قلج أرسلان عن أبيه شدة البأس في القتال وحسن التخطيط في الإدارة والمعارك؛ ولذلك استطاع مع صغر سنِّه عند تولِّيه الحكم - فلم يزِدْ على السابعة عشرة من عمره - أن يصبح الشخصية الأولى في منطقة آسيا الصغرى بكاملها، ومع هذه الكفاءة الإدارية والعسكرية إلا أننا لا نلمح في حياته توجهًا إسلاميًّا واضحًا، أو رغبة حقيقية في توحيد صفِّ المسلمين، إنما كان همُّه الأول هو توسيع الرقعة التي يحكمها، وتكثير الأتباع له؛ لذلك نجده لا يتردد كثيرًا في حرب المناوئين له، وإن كانوا من المسلمين، أو حتى من نفس عائلته التركية الكبرى، أو السلجوقية نفسها ! وهذا الحب للتوسع كان أحيانًا يعمي بصره عن رؤية الأخطار على حقيقتها، فيهمل أحيانًا خطرًا ساحقًا، ويهتم أحيانًا بمشكلة بسيطة، مما يستغرب جدًّا من رجل مثله له كفاءة معلومة كما ذكرنا، وليس هذا إلا لأنه لم يكن - فيما يبدو لي - ينظر إلى مصلحة المسلمين، ولكن إلى مصلحته هو في المقام الأول.

رسم يُظهر اشتباك السلاجقة مع الغزنويين في معركة داندقان.
أين كان إذن قلج أرسلان الأول وقت تدفق القوات الصليبية الهائلة صوب مدينة نيقية العاصمة ؟!
مدينة ملطية
لقد كان خارج مدينته، بل وعلى بُعد أكثر من تسعمائة كيلو متر إلى الشرق من المدينة ! لقد كان يحاصر مدينة ملطية ذات الكثافة الأرمينية، حيث قام بينه وبين الزعيم المسلم غازي بن الدانشمند - وهو أحد الأتراك المسلمين الذين كانوا يحكمون شمال شرق آسيا الصغرى - نزاعٌ كبير حول ملكية هذه المدينة.. وهذه الرغبة الجامحة للتوسع في مناطق جديدة جعلته لا يصرف كثير اهتمام إلى مسألة الصليبيين على خطورتها، بل إنه عندما علم بقدوم الجيوش الصليبية مؤخرًا إلى القسطنطينية ظنَّ أنها مثل جموع العامة الذين جاءوا قبل ذلك، ومن ثَمَّ توقع أن يقضي عليهم بفرقة من جيشه بسهولة، كما فعل مع جموع بطرس الناسك ووالتر المفلس
الإمبراطور المعظم ألكسيوس كومنين الأول إمبراطور القسطنطينية
وإضافةً إلى ذلك أنه خُدِع بمكيدة دبَّرها الإمبراطور الداهية ألكسيوس كومنين، حيث أرسل بعض جواسيسه إلى قلج أرسلان الأول يُصوِّرون له الخلاف الذي كان بين الإمبراطور البيزنطي وزعماء الحملة الصليبية على أنه مستحكم لا حلَّ له، وبالتالي فلن يسمح الإمبراطور البيزنطي لهؤلاء الصليبيين بالعبور إلى آسيا الصغرى، وهذا الخداع خدَّر قلج أرسلان، وجعله يترك حامية صغيرة نسبيًَّا في مدينة نيقية العاصمة، ويتوجه بجيشه الرئيسي لحصار ملطية البعيدة.. ومما يؤكد أنه كان مخدوعًا أنه ترك زوجته وولديه وكل أمواله وكنوزه في المدينة، ولو كان يشعر بأيِّ خطر ناحيتها ما فعل ذلك أبدًا..
تدفقت الجيوش الصليبية الضخمة حول المدينة الحصينة ، وبدأ الحصار يوم 21 من جمادى الأولى 490هـ - 6 من مايو 1097 ، وكان الحصار من الجهات الثلاثة للمدينة باستثناء الجهة الغربية التي كانت تطل على بحيرة طولها اثنا عشر ميلاً ، ولم يكن مع الجيوش الصليبية قوة بحرية تسمح لهم بإغلاق هذا المنفذ وبعد أسبوع من الحصار بدأ الصليبيون في قصف أسوار المدينة وأبراجها بالمجانيق التي أمدهم بها الإمبراطور البيزنطي .. 
صمدت المدينة في بادئ الأمر، وبادلت الجيش الصليبي إطلاق السهام المسمومة، وألقت عليهم الكلاليب المحمومة، وأحدثت إصابات بالغة في الصليبيين، غير أنها لم تستطع فك الحصار, وبالتالي أرسلت رسالة عاجلة إلى قلج أرسلان تطلب النجدة السريعة ! أدرك قلج أرسلان خطورة الأمر، فتحرك بسرعة صوب عاصمته بعد أن رفع الحصار عن ملطية ولكن طول المسافة ووعورة الطريق حالت دون وصوله بسرعة، في هذه الأثناء أرسل الإمبراطور الداهية ألكسيوس كومنين مندوبًا سريًّا إلى داخل المدينة، وهو القائد العسكري بوميتس، ليتفاوض مع الحامية المسلمة ليسلموا له المدينة بدلاً من سقوطها في يد الصليبيين، وخوَّفهم أن الصليبيين في غاية التوحُّش، وسوف يقومون بقتل كل من في المدينة عند سقوطها, وهذا في الواقع أمر صحيح رأيناه - بعد ذلك - في بيت المقدس وغيره من المدن التي أسقطها الصليبيون.
أطلال أسوار مدينة نيقية العتيقة
أما لماذا حاول الإمبراطور التفاوض مع الحامية المسلمة دون علم الصليبيين؛ فلأنه كان يتوقع الغدر منهم، وعدم الالتزام باتفاقية القسطنطينية التي تقضي بتسليم كل المدن التي كانت تحت سيطرة الدولة البيزنطية سابقًا إلى الإمبراطور البيزنطي حين سقوطها..

القسطنطينية
والواقع أن الحامية المسلمة بدأت تفكر في عرض الإمبراطور جديًّا، وخاصةً أنه وعد بحفظ دماء المسلمين وعدم نهب البلد، وحمايتها من الصليبيين.. ثم إنه أقدم على خطوة أخرى ماكرة تحقِّق المنفعة للإمبراطورية من وجهتين؛ وهو أنه سمح عن طيب خاطر للإمدادات المسلمة أن تصل عن طريق البحرية إلى المدينة المحاصرة، وكان قادرًا على منعها باستخدام الأسطول البيزنطي القوي، وإنما فعل ذلك ليقنع الصليبيين من جهة أنهم لا يستطيعون الاستغناء عنه في حروبهم، ومن جهة أخرى لتطمئن الحامية المسلمة أنه سيفي بعهده لهم إنْ هم سلَّموا له المدينة.. وبينما تفكر الحامية المسلمة في الأمر إذْ وصل قلج أرسلان الأول بجيشه، وذلك في (490هـ - يوم 21 من مايو 1097 واشتبك بمجرَّد وصوله مع الجيوش الصليبية لفتح طريقٍ إلى داخل المدينة، ولكنه - للأسف - لم يستطع، وأدرك أنه لن يفلح في فك الحصار، بل إنه يَئِس من معركة يومٍ واحد، وانسحب بعيدًا ليترك مدينته تلقى مصيرها وهي واقعة بين شقي الرَّحَى: الصليبيين من ناحية، والدولة البيزنطية من ناحية أخرى !
أكمل الإمبراطور البيزنطي لعبته بأن أخرج سفنه القوية لتمنع الإمداد البحري عن المدينة المسلمة، وبدأت المدينة تشعر بالأذى الشديد وتتوقع الهلكة القريبة، وخفَّت مقاومتها جدًّا، وأدرك الصليبيون أهمية الإمبراطور البيزنطي.
وأدركت الحامية المسلمة أيضًا أهمية هذا الإمبراطور الداهية، فأسرعت الحامية قبل السقوط بقبول عرض الإمبراطور الذي سعد بذلك جدًّا وأسرع بالموافقة، ومن ثَمَّ فوجئت الجيوش الصليبية بعد خمسة أسابيع من الحصار بالأَعْلام البيزنطية ترتفع فجأة على أبراج المدينة كلها، وليأتي مندوب الإمبراطور ليعلن أن المدينة أصبحت بيزنطية، وليمنع الجيوش الصليبية من دخول المدينة خوفًا من نهبها, وليوضع بوتوميتس قائدًا عسكريًّا على المدينة.. وقرر الإمبراطور أن يتم عهده ويحفظ دماء المسلمين، بل إنه أعلن أنه على استعداد لإعادة زوجة قلج أرسلان وأخته وولديه إلى قلج أرسلان دون مقابل..
رسوم لنماذج من جنود الجرمان والفرنسيين في الحملة الصليبية الثانية
أثار ذلك حنق الصليبيين وشعروا أنهم قد خُدعوا ، وغضبوا جدًّا للتسامح الذي أبداه الإمبراطور مع أهل المدينة ، وكانوا يريدونها عبرة لكل المدن ، لكنهم لم يستطيعوا فعل شيء بعد أن علموا أنهم يتعاملون مع قائد قويّ محنك صاحب خبرة طويلة ، ويقود دولة تضرب جذورها في أعماق التاريخ ..
الإمبراطور الداهية ألكسيوس كومنين
أما الإمبراطور البيزنطي فقد حفظ وعده بالفعل، ولا أعتقد - كما يحلِّل بعض المؤرخين - أنه فعل ذلك حبًّا في الأخلاق الحميدة، ولكن الذي يبدو لي ويستقيم مع سيرته وقصة حياته أنه يريد أن يستغل هذه الحادثة لإيقاع بقية المدن الإسلامية في آسيا الصغرى، فلو كانت الجيوش الصليبية تقدِّم الترهيب فهو يقدِّم الترغيب، ولو تعاون الصليبيون مع الأرمن الكاثوليك، فسيتعاون هو مع المسلمين ! إنها حرب المصالح، ومباراة الاستحواذ..
والذي يثبت ذلك أنه بعد السيطرة على قونية أخذ زوجة قلج أرسلان وولديه وتوجه إلى أقاليم مسيا Mysia وأيوينا ولسيديا في غرب آسيا الصغرى، وبدأ يساوم المدن هناك على التسليم في مقابل دمائهم ودماء زوجة قلج أرسلان وولديه.. وقد نجحت خطته وسلَّمت تلك المدن بسهولة، وما هي إلا فترة بسيطة حتى صارت كل مدن غرب آسيا الصغرى تابعة للدولة البيزنطية, إنه كان واضحًا أن الأمة الإسلامية في طور ضعفٍ شديد، وتتهاوى بسرعة، وكان السباق محمومًا بين الصليبيين والدولة البيزنطية لاقتسام الميراث الضخم: ميراث المسلمين !

ومع أن سقوط نيقية كان سقوط مدينة واحدة إلا أن الآثار المترتبة على سقوطها كانت هائلة:
معركة دوريليوم التي حسمت الصراع السلجوقي-الصليبي في الأناضول وتساقطت بعدها المدن السلجوقية في أيدي الصليبيين.
أولاً: ارتفعت جدًّا معنويات الجيش الصليبي، وزالت من النفوس أزمة سحق حملة الجموع الشعبية بقيادة بطرس الناسك ووالتر المفلس، ومن ثَمَّ ظهر التصميم عند القادة والجنود في غزو العالم الإسلامي، على الرغم من الإصابات البالغة التي لحقت بالجيش في أثناء حصار نيقية، أو في أثناء القتال مع قلج أرسلان..
ثانيًا : ارتفعت جدًّا المعنويات في أوربا بعد الإحباط الذي عانت منه بعد مصيبة الحملات الشعبيَّة، وأدى هذا الارتفاع في المعنويات إلى تحميس جموع أخرى ، وبالتالي ازداد تدفق الجيوش الصليبية من أوربا إلى آسيا الصغرى والشام ، وبدأت الموانئ الإيطالية تفكر جديًّا في المشاركة في الحملات بصورة أساسية ..
ثالثًا: ارتفعت أيضًا معنويات الدولة البيزنطية، حيث كان سقوط نيقية يمثِّل أول ثأر لكرامة الدولة البيزنطية بعد هزيمة ملاذ كرد الشهيرة سنة 463هـ، أي منذ أكثر من 27 سنة، وهذا رفع جدًّا من أسهم الإمبراطور الداهية ألكسيوس كومنين..
رابعًا : نتيجة ارتفاع معنويات الدولة البيزنطية تحركت بقوة مستغلِّة اضطراب السلاجقة ، وبالتالي ضمت معظم أراضي غرب آسيا الصغرى إلى حوزة الإمبراطورية البيزنطية , كما بدأت الإمبراطورية في مهاجمة عدة مدن أخرى في شمال آسيا الصغرى وعلى ساحل البحر الأسود ولقد ظل غرب الأناضول بيزنطيًّا لمدة تزيد على ثلاثة قرون بعد موقعة نيقية !
خامسًا: في مقابل هذا الارتفاع الواضح في معنويات الصليبيين والبيزنطيين على حدٍّ سواء، كان هناك هبوط حاد في معنويات المسلمين: جيشًا وشعبًا، وقادةً وجنودًا؛ فهذا سقوطٌ لأحصن مدن آسيا الصغرى، مما يعني أن سقوط المدن الأخرى سيكون أسهل، ثم إن هذا إتحاد بين عملاقين كبيرين: الصليبيين الغربيين والبيزنطيين الشرقيين، مما يعني أن الأيام القادمة أصعب من التي مرت !
سادسًا: من الآثار المهمة لهذه الموقعة ازدياد الرواسب النفسية السيئة بين الصليبيين والبيزنطيين، مما سيكون له أبلغ الأثر في خط سير الحملات بعد ذلك؛ فهذا الإمبراطور يتصرف في سرية بعيدًا عن زعماء الصليبيين لمصالحه الخاصة، وهؤلاء الزعماء يحنقون على الإمبراطور ويتوجسون منه خيفة، وكان من الواضح أن هناك نارًا شديدة تحت الرماد، وهذا الذي دعا الإمبراطور البيزنطي إلى الإصرار على أن يجتمع زعماء الصليبيين بعد الموقعة وقبل استكمال الغزو، وأن يعيدوا القسم له بالتبعية والولاء، وقد فعلوا جميعًا ذلك مرغمين
الأمير بوهيموند بن روبرت جويسكارد أمير نورمانديا
وإن كان بوهيموند قد أسرع لذلك دون تردد؛ ليستمر في كسب صداقة الإمبراطور
غير أن ريمون الرابع أصرَّ على عدم القسم بالولاء والتبعية ولكنه كرَّر قسمه بتعظيم حياة الإمبراطور
الأمير تانكريد ابن شقيقة الأمير بوهيموند
أيضًا لم يقسم تانكرد ابن أخت بوهيموند، حيث لم يُقسِم من البداية مكتفيًا بقسم خاله بوهيموند، وهذا سيكون له آثار فيما بعد على قراراته وتحركاته.
الأرمن محافظون وفي الأغلب يتزوجون من نفس طائفتهم للحفاظ على الهوية الأرمن
سابعًا: حدث نشاط أرمني ملحوظ نتيجة الهزيمة التي مُني بها السلاجقة، وأيضًا نتيجة دخول الصليبيين الكاثوليك القريبين من الأرمن على عكس البيزنطيين الأرثوذكس؛ ومن هنا سيظهر تعاون ملحوظ بين الأرمن وبين الصليبيين، وظهرت دعوات من المدن ذات الكثافة الأرمينية تدعو الصليبيين إلى القدوم إليها، وخاصةً في الجنوب الشرقي من آسيا الصغرى، وهذا سيؤثر في خط سير الحملات الصليبية.
خريطة تقريبية لمدن وسط آسيا وحدود الدولة السلجوقية والدول المجاورة لها في عام 432 هـ عندما اعترف الخليفة العباسي لأول مرة بالدول السلجوقية
ثامنًا: عسكريًّا فإن الطريق فُتح إلى وسط آسيا الصغرى، حيث كانت نيقية هي العقبة الكبرى في الطريق، وبالتالي فإن فرصة الصليبيين أصبحت كبيرة للوصول إلى عمق آسيا الصغرى، بل وبلوغ بلاد الشام..
قونية
تاسعًا : بعد سقوط نيقية أسرع قلج أرسلان إلى مدينة قونية، واتخذها عاصمة جديدة له أو إن شئت فقل : قاعدة عسكرية جديدة له ينطلق منها في حربه ضد الصليبيين ، وهي مدينة على بُعد أربعمائة كيلو مترٍ من نيقية إلى الجنوب الشرقي منها ، وهي وإن لم تكن في نفس حصانة نيقية إلا أنها كانت حصينة أيضًا .
الدولة السلجوقية في أقصى اتساعها عام 1092، بعد وفاة السلطان جلال الدولة ملك شاه
عاشرًا: قرر قلج أرسلان زعيم السلاجقة الروم وغازي بن الدانشمند زعيم التركمان تناسي خلافاتهما مؤقتًا، وتشكيل جبهة متحدة لحرب الصليبيين، وهذا الإتحاد وإن كان نقطة إيجابية إلا أنه كان هشًّا؛ لعمق الخلافات بين الفريقين وقدمها، ولغياب الدافع الإسلامي الواضح للوَحْدة أو للقتال، وإنما كان إتحادهما لغرض الحفاظ على أملاكهم لا حمية للدين.

ولعلنا إن أردنا أن نحلِّل أسباب هذه الهزيمة القاسية للمسلمين، فإننا سنلحظ بعض الأسباب التي ستتكرر في كل المواقع التي سيخسر فيها المسلمون؛ لأن هذه سُنَّة ثابتة في كل الأزمان. ومن أهم الأسباب التي تظهر لنا:
أولاً: غياب التوجُّه الإسلامي والحميَّة الدينية عند المقاتلين المسلمين، وشتان بين مَن يقاتل لتكون كلمة الله هي العليا، ومن يقاتل من أجل مصلحته وحياته الخاصة.
ثانيًا: الصراعات المستحكمة بين المسلمين، وتفرُّق كلمتهم، والنزاع الدائر بينهم على معظم الجبهات، والله عز وجل يقول في كتابه: (وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) فالتنازع - كما هو واضح من الآية - سببٌ رئيسي من أسباب الفشل وذهاب الريح.
ثالثًا: عدم اكتراث المسلمين في الشام والعراق وشرق العالم الإسلامي ومصر بالحدث، وترك سلاجقة آسيا الصغرى يواجهون الأمر بمفردهم، وهذا سيكون له المردود السلبي على الجميع بعد ذلك.
رابعًا: غياب الاستعداد العسكري المناسب، حيث كانت مخابرات السلاجقة ضعيفة لم تدرك كل هذه التحركات الصليبية إلا بعد فوات الأوان، بينما بذل الصليبيون والبيزنطيون الجهد كله في الإعداد لهذا اليوم، ولا بد لمن بذل أن يجد نتيجةً لجهده وإعداده.

كانت هذه مجموعة من أهم الأسباب التي أدت إلى هزيمة نيقية وسقوطها، وهي أسباب إن وجدت في أي جيل فلا شكَّ أنه سيعاني من نفس الهزيمة، وسيقع في نفس المشكلات والأزمات.

ماذا فعل الصليبيون بعد سقوط نيقية ؟! لقد قرر الصليبيون الانطلاق مباشرة بعد راحة أسبوع واحد، وذلك في الاتجاه الجنوبي الشرقي صوب قونية العاصمة الجديدة لقلج أرسلان، وقد قسَّم الصليبيون جيشَهم إلى نصفين؛ أما النصف الأول فكان نورمانيًّا خالصًا حيث كان يضم نورمان إيطاليا، وعلى رأسهم بوهيموند وتانكرد، وأيضًا نورمان فرنسا بقيادة روبرت وستيفن، وكانت الرئاسة العامة لهذا النصف مع بوهيموند، وقد صحبت هذا القسم فرقة من الجيش البيزنطي، عليها القائد الخبير تاتيكيوس.. 
 الأنبا أدهيمار المندوب البابوي في الحرب الصليبية

أما القسم الثاني من الجيش الصليبي فكان مكوَّنًا من جنوب فرنسا بقيادة ريمون الرابع، وأيضًا جنود شمال فرنسا واللورين بقيادة جودفري، وكانت القيادة العامة في هذا القسم لريمون الرابع.. وسارت الجيوش بشكل متوازٍ يفصل بينهما حوالي عشرة كيلو مترات، على أن يكون اللقاء في منطقة خرائب مدينة دوري ليوم وهي على بُعد حوالي مائة كيلو متر من نيقية في اتجاه الجنوب الشرقي.
وقد انقسم الجيش الصليبي إلى نصفين لعدة أهداف؛ منها أن هذا أفضل في تموين الجيش حيث يعتمد الجيش على الغذاء من المحاصيل الموجودة في المزارع بالطريق، وأيضًا يعتمد الجيش على الماء في العيون والآبار الموجودة بالمنطقة ومنها سلاسة الحركة وسرعتها حيث لا تستوعب الطرق الموجودة - مهما اتسعت - لأعداد المقاتلين الهائلة.
ومنها القضاء على جيوب فرق السلاجقة المتناثرة هنا وهناك ومنها التمويه على المخابرات السلجوقية، حيث من الممكن أن تتصدى لأحد القسمين على اعتبار أنه الجيش بكامله، وهذا - لا شك - سيؤدِّي إلى خلل كبير في خطة القتال، وهو ما حدث بالفعل مع هذه الجيوش العملاقة.
جودفري دي بوايون
وصل أحد الجيشين الصليبيين - الذي كان برئاسة بوهيموند - إلى منطقة دوري ليوم حيث وجد الجيش الإسلامي منتظرًا في هذه السهول والمرتفعات؛ والجيش الإسلامي كان عبارة عن جيش قلج أرسلان المتَّحِد مع جيش غازي بن الدانشمند.. وكما توقع الصليبيون فقد ظنَّ الجيش الإسلامي أن جيش بوهيموند هو كل الجيش الصليبي، على الأقل في هذه المنطقة، ودارت معركة كبيرة بين الجيشين في (490هـ) 1 من يوليو 1097م، ودارت رَحَى المعركة في بداية الأمر على الجيش الصليبي، وتوقع المسلمون أن يتم لهم النصر بعد لحظات، لولا ظهور جيش ريمون الرابع وجودفري دي بوايون فجأةً واشتراكه المباشر في المعركة؛ مما أدى إلى انقلاب الأوضاع، وتبدُّل الحال، وسيطرة الصليبيين على مجريات القتال، على الرغم من إصابة بوهيموند النورماني, وما هي إلا لحظات حتى ظهر الضعف على الجيش الإسلامي، وحلت به الهزيمة المُرَّة، وانسحب قلج أرسلان بسرعة إلى داخل الأناضول، مخلِّفًا وراءه كمًّا هائلاً من المؤن والغنائم، ليتحقق للصليبيين نصر ثانٍ كبير، يُعرف في التاريخ بموقعة دوري ليوم..
  موقعة دوري ليوم
وهكذا تعمقت آثار سقوط نيقية بعد هزيمة دوري ليوم ، وارتفعت معنويات الصليبيين والبيزنطيين والأرمن أكثر وأكثر ، وهبطت معنويات الجيش الإسلامي للحضيض ، حتى إنَّ قلج أرسلان ما جَرُؤ بعد ذلك على مواجهة الجيش الصليبي وجهًا لوجه ، بل إنه أخلى كل المدن والقرى التي في الطريق ، حيث واصل الصليبيون زحفهم ليتسلموا المناطق الواسعة دون قتال يُذكر ، بل الأدهى من ذلك أن الصليبيين وجدوا مدينة قونية - التي كان قلج أرسلان قد اتخذها عاصمة جديدة بعد سقوط نيقية - خاليةً تمامًا من السكان اللهم إلا بعض الأرمن ، فاحتلوها في يسرٍ ، ثم تجاوزوها إلى مدينة هرقلة ، فاحتلوها أيضًا ، ثم اتجهوا إلى الشمال الشرقي ليحتلوا مدينة قيصرية ، ثم اجتازوا مجموعة من سلاسل جبال طوروس ليصلوا إلى مدينة مَرْعَش وهي مدينة غالب سكانها من الأرمن) ، فاستقبلوا الصليبيين بحفاوة ، وتسلَّم الصليبيون المدينة في 490هـ - 13 من أكتوبر 1097م .
قيصرية
ومن الجدير بالذكر أنه حتى هذه اللحظة فإن الجيوش الصليبية كانت تسلِّم الدولة البيزنطية كل ما يُفتح من المدن، وهو ما اتفق عليه قبل ذلك في اتفاقية القسطنطينية، وإن كان من الواضح أن هذا لم يكن عن طيب خاطر، ولكن لاضطرارهم إلى الخبرة البيزنطية وآلات الحصار والأدِلاَّء، وما إلى ذلك من وسائل مساعدة.
صورة لمنجنيق
وكان من الواضح أيضًا أن الصليبيين سينتهزون فرصة قريبة للخروج من هيمنة الدولة البيزنطية، فهم لم يقطعوا كل هذه المسافات، ولم ينفقوا كل هذه الأموال والأرواح حبًّا في النصارى الأرثوذكس، أو رغبة في ردِّ كرامة الإمبراطورية البيزنطية، إنما كان الهدف في الأساس هو الامتلاك الشخصي لكل أمير من أمراء الحملة، والتمتُّع بثروات الشرق، وهذا ما سيظهر في الخطوات القادمة من حركة الحملة الصليبية.
بوابة كليوبترا في طرسوس
ولعل أول مظاهر هذه الرغبة التوسعية ظهرت عندما انفصل تانكرد النورماني ابن أخت بوهيموند، ومعه بلدوين أخو جودفري بوايون، ليقوما بغزو إقليم قليقية صاحب الكثافة الأرمينية، وكانت بداية انفصال هاتين السريتين من جيش الصليبيين في 490هـ - 14 من سبتمبر 1097م، وتوجها مباشرةً إلى مدينة طرسوس وذلك في (490هـ - 21 من سبتمبر 1097.
الأمير بولديون دي بولون الأول وأول ملك لأورشليم
وكانت سرية تانكرد أسرع في الوصول إلى مدينة طرسوس، واشتبكت في صراع مع الحامية التركيَّة في داخل المدينة، وصبرت الحامية التركية لولا ظهور جيش بلدوين، فأدركت الحامية أن الأمل ضعيف في المقاومة، لذلك أخلت المدينة ودخلها تانكرد أولاً، ورفع أعلامه عليها متناسيًا اتفاقية القسطنطينية التي تقضي بتسليم المدينة إلى الإمبراطورية البيزنطية، واستقبله السكان الأرمن بالترحاب ولكن بلدوين لم يعجبه هذا الأمر فثار وغضب، وكاد يدخل في صراعٍ مع تانكرد، ولم يكن غضبه لصالح الدولة البيزنطية بالطبع، وإنما كان غضبه لنفسه؛ فقد كان يريد المدينة له لا لتانكرد.. وفي النهاية قَبِل تانكرد أن يترك المدينة لبلدوين، واتجه هو إلى مدينة أخرى هي موبسواسطيه، ورفع بلدوين أعلامه على المدينة طامعًا أن تكون ملكًا شخصيًّا له..

وفي هذه الأثناء حدث أمران غيَّرا من سير الأحداث في منطقة طرسوس ؛ أما الأمر الأول فهو أن بوهيموند كان قد أرسل ثلاثمائة من الجنود نجدةً إلى تانكرد ابن أخته، فوصل هؤلاء الجنود ليلاً إلى مدينة طرسوس ، فوجدوا أن تانكرد قد غادرها ، والمدينة أصبحت بيد بلدوين ، فطلبوا المبيت إلى الصباح في داخل المدينة، ولكن بلدوين رفض دخولهم وأجبرهم على المبيت خارج المدينة ، فناموا في العراء فدهمتهم فرقة من الأتراك وأبادوهم عن أخرهم ووصل هذا الأمر إلى الجيوش الصليبية ، فحنقت أشد الحنق على بلدوين الذي كان سببًا في هلاك هذه الفرقة ..

وأما الأمر الثاني فهو أن أحد الأرمن المقرَّبين من بلدوين نصحه أن يترك هذه المدينة المحدودة، ويتجه إلى مدينة الرها على شاطئ الفرات؛ لأنها أخصب وأوسع وأعظم كثيرًا من طرسوس.
بالدوين الأول
طمع بلدوين في نصيحة الأرمني، وترك المدينة متجهًا ناحية الشرق، وفي الطريق وجد تانكرد على أبواب مدينة موبسواسطيه، فدار بينهما قتال بسبب الفرقة الإيطالية التي هلكت خارج أسوار طرسوس، ثم تصالحا في النهاية وأكملا الطريق لملاقاة الجيش الصليبي الرئيسي المتجه إلى أنطا كية.
موقع الرها
ولكن عند وصولهم إلى الجيش الصليبي اجتمع زعماء الحملة الصليبية على لوم وتقريع بلدوين بما فيهم أخوه جودفري بوايون، واستغل بلدوين هذا اللوم والعتاب ليغضب وينسحب بجيشه من الجيوش الصليبية الرئيسية متجهًا ناحية الرها في الشرق، متناسيًا تمامًا قصة بيت المقدس والحجيج النصارى، فلم يكن له همٌّ إلا تأسيس مملكة خاصَّة به، وإن كانت بعيدة كل البعد عن بيت المقدس وطريق الحجيج.
إمارة الرها وما حولها من الدول الأخرى في الشرق الأوسط عام 1135
وبالفعل خرج بلدوين من الجيش واتجه إلى الرها، وفي الطريق سلَّمت له كل المدن دون قتال، وغالبية سكانها كانت من الأرمن، ثم وصل إلى الرها، واستقبله أهلها الأرمن بالترحاب، وكان هذا على غير رغبة أميرها اليوناني ثوروس Thoros، الذي كان يدفع الجزية قبل ذلك للمسلمين وكان يأمل أن يستقلَّ بالمدينة لنفسه ليصبح تابعًا للدولة البيزنطية لا لبلدوين، غير أن الأمير تعامل مع الأمر في واقعية، وقرر أن يأخذ حلاًّ وسطًا، وهو أن يعرض على بلدوين أن يصبح بمنزلة ابنه - وكان هذا الأمير مسنًّا - ومن ثَمَّ يُصبح الوريث الشرعي له على مدينة الرها وما حولها من مدن وقرى، وهي منطقة غنية خصبة، فوافق بلدوين على ذلك، ودخل المدينة، ثم إنه اتفق مع بعض الأرمن في المدينة على الغدر بثوروس، وبالفعل قتلوه، ليتسلم بلدوين مقاليد الحكم في المدينة، وليؤسِّس أول إمارة صليبية في العالم الإسلامي، وهي إمارة الرها، وذلك في 491هـ - مارس سنة 1098..
ولما كانت الحامية الصليبية في منطقة الرها صغيرة ، والشعب بكامله من الأرمن تقريبًا ، فقد اتخذ بلدوين عدة خطوات لتثبيت أركان إمارته ، وعدم السماح بحدوث قلاقل أو إضطرابات .. كان من هذه الخطوات التزاوج بين الصليبيين الغربيين والأرمن، وبدأ بلدوين بنفسه حيث تزوج من الأميرة الأرمينية أردا Arda، وهي ابنة أحد زعماء الأرمن..
وكان من هذه الخطوات أيضًا توسيع رقعة إمارة الرها ، وذلك على حساب العدو اللدود للأرمن وهم الأتراك، فاتجه بجيش مشترك من الصليبيين والأرمن إلى مدينة سمي ساط، وهي على بُعد مسيرة يوم من الرها (45 ليلو مترًا شرقي الرها) ، وكان على رأسها أحد السلاجقة الأتراك ، الذي أدرك من الوهلة الأولى أنْ لا طاقة له بحرب الجيش الصليبي الأرمني ، وخاصةً بعد الهزائم المتتالية للسلاجقة في آسيا الصغرى ، وعدم اهتمام سلاجقة فارس أو الشام بالأمر حتى هذه اللحظة ، وهذا الإحباط دفعه إلى فعل شنيع ؛ إذ طلب من بلدوين أن يقبل بشراء سميساط بالمال ، ويوفِّر على نفسه القتال والحرب ، وطلب الأمير التركي مبلغ عشرة آلاف دينار ذهب مقابل تسليم المدينة بشعبها ، ووافق بلدوين على الفور ، فقد كانت خزينة الزعيم الراحل ثوروس مليئة بالأموال ، ودفع المبلغ المطلوب ، وتسلَّم المدينة المسلمة دون قتال !! ولا شك أن وجود مثل هؤلاء القادة المفرطين، والبائعين لكل شيء في مقابل المال كتفسيرٍ واضح لهذا الاجتياح الصليبي للبلاد المسلمة !! ولم يكتف بلدوين بضم سميساط ولكن أتبعها بعد ذلك بضم سروج ثم البيرة لتتسع رقعة إمارة الرها، وتصبح مُرضيَّة لغرور الأمير الفرنسي بلدوين.
ومن خطوات بلدوين أيضًا لتثبيت أقدامه في إمارة الرها أنه كان حريصًا عند ضم المدن الإسلامية أن يحرِّر الأسرى الأرمن من السجون التركية، وخاصة في سميساط، وإرجاع هؤلاء الأسرى إلى عائلتهم الأرمينية دون مقابل؛ مما أكسبه مودة الشعب الأرمني وتعاطفه.
وكان من الخطوات الرئيسية التي اتخذها بلدوين أنه أنكر تبعيته للإمبراطور البيزنطي، وتحلَّل صراحةً من اتفاقية القسطنطينية، وضرب بهذا عصفورين بحجر واحد؛ فهو حقق أحلامه بتكوين إمارة يصبح هو القائد الوحيد لها دون تبعيته لأحد، ثم إنه أرضى الشعب الأرمني جدًّا حيث إن الأرمن المتعصبين لمذهبهم كان يحنقون بشدة على المذهب الأرثوذكسي.. والجدير بالذكر أن المذهب الأرمني أقرب إلى الكنيسة الغربية منه إلى الأرثوذكس، ولكنه ليس متطابقًا معها، ومع ذلك فقد سمح بلدوين بالحرية العقائدية في إمارة الرها، ولم يضغط مطلقًا على الأرمن لتقليد المذهب الكاثوليكي الغربي، ولا شكَّ أن هذا وافق قبولاً عامًّا عند الشعب الأرمني..

أما بالنسبة للإمبراطور البيزنطي فإنه لم يستطع أن يفعل شيئًا ؛ لأن الرها كانت بعيدة عن مركز قوته ، وكان تركيزه الأساسي على غرب آسيا الصغرى ، ومدن منطقة قليقية ، وعلى رأسها طرسوس وأذنة والمصيصة ، كما كان مشغولاً جدًّا بأمر مدينة أنطا كية المهمة ، التي يتجه إليها الجيش الصليبي الآن ..

أما بالنسبة لبلدوين فإنه لم يكتف بقبول الشعب الأرمني الأوربي،إنه يدرك كقائد محنك أن هؤلاء ما استقبلوه بالترحاب إلا هربًا من التبعية البيزنطية من ناحية، وهربًا من السيطرة التركية من ناحية أخرى، وأنهم متى توفرت لهم القوة فسوف يستقلون بحكمهم، ويطردون بلدوين وجيشه؛ لذلك بدأ بلدوين يسعى في تغيير التركيبة السكانية في إمارة الرها لصالح الصليبيين، ففعل مثلما يفعل اليهود الآن في فلسطين، حيث بدأ يرسل إلى أوربا يستقدم الصليبيين الغربيين، وخاصة من فرنسا للقدوم والاستيطان الكامل في إمارة الرها، فهو لم يكن يستقدم الجنود المرتزقة، ولكن كان يستقدم العائلات الأوربية برجالها ونسائها وأطفالها، وكان يستقدم أيضًا أصحاب الوجاهة والأمراء في مقابل مبالغ مالية كبيرة من المال، وإغراءات كثيرة تشمل إعطاء إقطاعيات خارج أسوار مدينة الرها تبلغ مساحات كبيرة.

وهكذا حوَّل بلدوين إمارة الرها إلى قطعة من الغرب الأوربي ، فيها النظام الإقطاعي المعروف هناك ، حيث صار الصليبيون على رءوس الإقطاعيات ، بينما الأرمن يعملون في الزراعة والتجارة تحت الهيمنة الصليبية .
ولا شك أن هذه الأوضاع أثارت بعض الأرمن، فقاموا ببعض الثورات على حكم بلدوين، ولكن بلدوين قابلها بقسوة بالغة وبردعٍ صارم؛ مما أدى إلى هدوء الأوضاع بعد ذلك في الإمارة بكاملها.
وهكذا بالترغيب والترهيب، والتواصل مع الشعب الأرمني ، والتعاون الوثيق مع نصارى غرب أوربا استطاع بلدوين أن يتمكن من حكم هذه الإمارة في عمق العالم الإسلامي ، وكانت هذه الإمارة هي حاجز الصدِّ الأول ضد سلاجقة فارس وشرق العالم الإسلامي لوقوعها في الطريق بينهم وبين منطقة الشام وبيت المقدس ، حيث ستكون هناك بقية الإمارات والممالك الصليبية ، وهي لكونها قريبة جدًّا من إمارة الموصل وديار بكر والجزيرة - وهي مناطق إسلامية صرفة من ناحية التركيبة السكانية ، فإنها كانت أشد الإمارات الصليبية إيذاءً للمسلمين ، غير أنها من الناحية الأخرى كانت أضعف الإمارات الصليبية لبُعدها عن بقيَّة الإمارات الصليبية في الشام ، ولعدم قدرتها على الإفادة من الأساطيل الإيطالية في البحر الأبيض المتوسط ولكونها تحكم شعبًا من الأرمن له أطماعه الخاصة ، ثم لقربها من الموصل التي ستشهد - مستقبلاً - نهضةً إسلامية جهادية سيكون لها أثرٌ في حياة إمارة الرها .

ولنعُدْ بعد هذه الرحلة في مدينة الرها وما حولها إلى الجيوش الصليبية، وهي تقطع الطرق الوعرة في آسيا الصغرى من خلال طبيعة الجبال القاسية، وندرة الماء في بعض الأماكن، وحدوث ما يمكن أن نسمِّيه بحرب العصابات من الأتراك المتفرقين هنا وهناك، إلا أنهم في النهاية وصلوا إلى المدينة المهمة جدًّا: مدينة أنطا كية، وكان وصولهم هذا في - 490هـ, 21 من أكتوبر 1097.