الثلاثاء، 28 أغسطس 2012

(13) قسوة القلوب لكثرة الذنوب أولا: صفات اليهود في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة. الفصل السادس: بني صهيون

الفصل السادس: بني صهيون
أولا: صفات اليهود في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة.
(13) قسوة القلوب لكثرة الذنوب.

لقد قست قلوب بني يهود فهي كالحجارة أو أشد: بسبب عصيانهم لله - تبارك وتعالى -، ولرسله - صلوات الله عليهم أجمعين - قال الله - تبارك وتعالى - مخبراً عن حال قلوبهم في قوله تعالى:
- {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } (1)سورة البقرة (74).
قوله تعالى: { ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِّن بَعْدِ ذٰلِكَ } القسوة: الصلابة والشدّة واليُبْس. وهي عبارة عن خلوّها من الإنابة والإذعان لآيات الله تعالى. قال أبو العالية وقتادة وغيرهما: المراد قلوب جميع بني إسرائيل.
 وقال ٱبن عباس: المراد قلوب ورثة القتيل؛ لأنهم حين حَيِيَ وأخبر بقاتله وعاد إلى موته أنكروا قتله، وقالوا: كَذَب؛ بعد ما رأوا هذه الآية العظمى؛ فلم يكونوا قط أعمى قلوباً، ولا أشدّ تكذيباً لنبيّهم منهم عند ذلك، لكن نفذ حكم الله بقتله.
روى الترمذي عن عبد اللَّه بن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوة للقلب وإن أبعد الناس من الله القلب القاسي " وفي مسند البزار عن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أربعة من الشقاء جمود العين وقساء القلب وطول الأمل والحرص على الدنيا تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي
 يقول ابن كثير:
يقول تعالى توبيخاً لبني إسرائيل، وتقريعاً لهم على ما شاهدوه من آيات الله تعالى، وإحيائه الموتى: { ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِّن بَعْدِ ذٰلِكَ } كله، فهي كالحجارة التي لا تلين أبداً، ولهذا نهى الله المؤمنين عن مثل حالهم، فقال:
{ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ءَامَنُوۤاْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ ٱللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ ٱلْحَقِّ وَلاَ يَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ ٱلأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} (2) الحديد: 16          
 قال العوفي في تفسيره عن ابن عباس: لما ضرب المقتول ببعض البقرة، جلس أحيا ما كان قط، فقيل له: من قتلك؟ قال: بنو أخي قتلوني، ثم قبض، فقال بنو أخيه حين قبضه الله: والله ما قتلناه، فكذبوا بالحق بعد أن رأوه، فقال الله: ثم قست قلوبكم من بعد ذلك، يعني: أبناء أخي الشيخ، فهي كالحجارة أو أشد قسوة، فصارت قلوب بني إسرائيل مع طول الأمد قاسية بعيدة عن الموعظة بعد ما شاهدوه من الآيات والمعجزات، فهي في قسوتها كالحجارة التي لا علاج للينها، أو أشد قسوة من الحجارة؛ فإن من الحجارة ما يتفجر منها العيون بالأنهار الجارية، ومنها ما يشقق فيخرج منه الماء، وإن لم يكن جارياً، ومنها ما يهبط من رأس الجبل من خشية الله، وفيه إدراك لذلك بحسبه، كما قال:
 { تُسَبِّحُ لَهُ ٱلسَّمَـٰوَٰتُ ٱلسَّبْعُ وَٱلأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَىْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـٰكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا } (3) الإسراء: 44
 وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد: إنه كان يقول: كل حجر يتفجر منه الماء، أو يتشقق عن ماء، أو يتردى من رأس جبل، لمن خشية الله، نزل بذلك القرآن، تفسير القرآن الكريم/ ابن كثير
 - قال - سبحانه -: {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظّاً مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (4) سورة المائدة (13).
يقول جلّ ثناؤه لنبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم: يا مـحمد، لا تعجبنّ من هؤلاء الـيهود الذين هموا أن يبسطوا أيديهم إلـيك وإلـى أصحابك، ونكثوا العهد الذي بـينك وبـينهم، غدراً منهم بك وأصحابك، فإن ذلك من عاداتهم وعادات سلفهم ومن ذلك أنى أخذت ميثاق سلفهم علـى عهد موسى صلى الله عليه وسلم علـى طاعتـي، وبعثت منهم اثنـي عشر نقـيبـاً وقد تُـخيروا من جميعهم لـيتـجسسوا أخبـار الـجبـابرة، ووعدتهم النصر علـيهم، وأن أورثهم أرضهم وديارهم وأموالهم، بعد ما أريتهم من العبر والآيات بإهلاك فرعون وقومه فـي البحر وفَلْق البحر لهم وسائر العبر ما أريتـم، فنقضوا ميثاقهم الذي واثقونـي ونكثوا عهدي، فلعنتهم بنقضهم ميثاقهم فإذا كان ذلك من فعل خيارهم مع أياديّ عندهم، فلا تستنكروا مثله من فعل أراذلهم. تفسير جامع البيان في تفسير القرآن/ الطبري
 أي: بسبب نقضهم للعهود مع الله تعالى ومع خلقه، جعل قلوبهم قاسية لا تجدي فيها المواعظ ، ولا تنفعها الآيات والنذر، فلا ترغبهم  الرغائب، ولا تخوفهم المخوفات، وهذا - كما قال أهل العلم - من أعظم العقوبات على العبد، لأن الهداية والاستقامة أعظم النعم.
 - وقال سبحانه فيهم { وَحَسِبُواْ أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُواْ وَصَمُّواْ ثُمَّ تَابَ اللّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُم وَاللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ}   (5) المائدة:71
يقول تعالـى: وظنّ هؤلاء الإسرائيـلـيون الـذين وصف تعالـى ذكره صفتهم أنه أخذ ميثاقهم وأنه أرسل إلـيهم رسلاً، وأنهم كانوا كلـما جاءهم رسول بـما لا تهوى أنفسم كذّبوا فريقاً وقتلوا فريقاً، أن لا يكون من الله لهم ابتلاء واختبـار بـالشدائد من العقوبـات بـما كانوا يفعلون.
{ فَعَمُوا وصَمُّوا } يقول: فعموا عن الـحقّ والوفـاء بـالـميثاق الذي أخذته علـيهم من إخلاص عبـادتـي، والانتهاء إلـى أمري ونهيـي، والعمل بطاعتـي بحسبـانهم ذلك وظنهم، وصموا عنه. ثم تبت علـيهم، يقول: ثم هديتهم بلطف منـي لهم، حتـى أنابوا ورجعوا عما كانوا علـيهم من معاصيّ وخلاف أمري، والعمل بـما أكرهه منهم إلـى العمل بـما أحبه، والانتهاء إلـى طاعتـي وأمري ونهيـي.
 { ثُمَّ عَمُوا وصَمُّوا كَثِـيرٌ مِنْهُمْ } يقول: ثم عموا أيضاً عن الـحقّ والوفـاء بـميثاقـي الذي أخذته علـيهم من العمل بطاعتـي والانتهاء إلـى أمري واجتناب معاصيّ،  {وَصمُّوا كَثِـيرٌ منهم } يقول: عمي كثـير من هؤلاء الذين كنت أخذت ميثاقهم من بنـي إسرائيـل بإتباع رسلـي والعمل بـما أنزلت إلـيهم من كتبـي عن الـحقّ، وصموا بعد توبتـي علـيهم واستنقاذي إياهم من الهلكة
{ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِـمَا يَعْمَلُونَ } يقول: بصير فـيرى أعمالهم خيرها وشرّها، فـيجازيهم يوم القـيامة بجميعها، إن خيراً فخيراً وإن شرّاً فشرّ. (6) جامع البيان في تفسير القرآن/ الطبري
وفي الحديث: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ الله عَنه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: " إنَّ الْعَبْدَ إِذَا أَخْطَأَ خَطِيئَةً نُكِتَتْ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، فَإِذَا هُوَ نَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ وَتَابَ سُقِلَ قَلْبُهُ، وَإِنْ عَادَ زِيدَ فِيهَا حَتَّى تَعْلُوَ قَلْبَهُ، وَهُوَ الرَّانُ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ: ( كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) ". (7) رواه الترمذي (3569)
قال المبارك فوري في " تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي" : " نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ " أَي : جُعِلَتْ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ ، أَي : أَثَرٌ قَلِيلٌ كَالنُّقْطَةِ شَبَهُ الْوَسَخِ فِي الْمِرْآةِ .        وقوله " سُقِلَ قَلْبُهُ "  نَظَّفَ وَصَفى مِرْآةَ قَلْبِهِ،   لِأَنَّ التَّوْبَةَ بِمَنْزِلَةِ الْمِصْقَلَةِ، تَمْحُو وَسَخَ الْقَلْبِ " وَإِنْ عَادَ ِزيدَ فِيهَا " أَي: تُطْفِئَ نُورَ قَلْبِهِ فَتُعْمِيَ بَصِيرَتَهُ.

والآيَةُ السابقة وإن كانت فِي حَقِّ الْكُفَّار، لَكِنْ  ذَكَرَهَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَخْوِيفًا لِلْمُؤْمِنِينَ، كَي يَحْتَرِزُوا عَنْ كَثْرَةِ الذَّنْبِ فتَسْوَدَّ قُلُوبُهُم ، كَمَا اِسْوَدَّتْ قُلُوبُ الْكُفَّار،  وَلِذَا قِال السلف: الْمَعَاصِي بَرِيدُ الْكُفْر، أي: تقود إليه