الفصل الخامس:
موقف الغرب (المسيحية السياسية) من الإسلام
(2) مختصر الحروب الصليبية
ثامنا: أسباب أو بواعث الحروب الصليبية
خط سير الحملات الصليبية
لقد كان
جهدًا كبيرًا ومنظمًا بذل فيه الكثير من الوقت والفكر والمال ، وجمعت فيه جهود أوربا
الغربية في قضية واحدة ، وهذا لم يحدث منذ عدة قرون ، ومنذ سقوط
الإمبراطورية الرومانية القديمة , بعد ذلك الاستعراض لخلفية أوربا التاريخية
، ولخلفية البابا الفكرية وللجهود التي بذلت ، وللجموع التي إستجابت للدعوة
نستطيع أن ندرك البواعث الحقيقية ، والأسباب الفعلية لهذه الحملة الصليبية .
إن كثيرًا
من المؤرخين يجعل الباعث وراء الحملة الصليبية سببًا معينًا واحدًا أو رئيسيًّا ، وينكر ما
دونه من أسباب ودوافع ، وهذا ينافي الواقع الذي رأيناه ، وينافي خروج هذا
الشتات من الناس ، حيث يمثِّلون عدة طبقات من المجتمع الأوربي ، وعدة بلاد
مختلفة ، وعدة أمراء وزعماء ، وعدة لغات ولهجات ، وعدة مستويات إجتماعية .
إن هذا
التنوع العجيب يثبت - بما لا يدع مجالاً للشك - أنه ليس هناك دافع واحد جمع كل هذا الشتات، إنما كانت
الدوافع مختلفة، والبواعث متعددة ، وأفلح البابا أوربان الثاني في الضرب على كل وتر ؛ حتى يقنع
الجميع بالخروج في رحلة واحدة وهدف واحد .
البابا أوربان الثاني
ونستطيع
بملاحظة تاريخ أوربا قبل الحملة الصليبية ، وبملاحظة طرق التحميس ، وبملاحظة خط سير الحملة ، والمواقف التي تمت في رحلة الذهاب إلى
أرض الشام، ثم بملاحظة الأحداث التي رأيناها أثناء الحروب الفعلية في آسيا الصغرى والشام وفلسطين ، نستطيع
بملاحظة كل هذه الأمور أن نحدِّد البواعث التي دفعت هذه الجموع المختلفة أن
تجتمع للخروج في الحملة الصليبية ، وهذه البواعث تضم ما يلي :
مملكة بيت المقدس
-1- الباعث
الديني
وهذا الباعث
يشكِّل أحد الدعامات الرئيسية لهذه الحملة ، وإن لم يكن كما ذكرنا الدافع الوحيد ، ونحن نعلم
من القرآن الكريم ، وكذلك من السُّنَّة المطهرة أن الحرب أبدية بين
الإسلام ومن يرفضه ، ولن يقنع الكثير من الناس بالتعايش السلمي مع الإسلام حتى لو
مدَّ الإسلام يده بالتصافح والتحابِّ ؛ لذلك فليس مستغربًا أن يسعى البابا
أوربان الثاني لحرب المسلمين حتى دون وجود مبررات معينة تدفع لهذه الحرب
، فهم مسلمون وهذا في حدِّ ذاته يكفي أن يكون سببًا في حربهم ..
القدس في العصر العباسي الثاني
وقد تكررت
في كلماته ألفاظ توحي بعدم إعترافه بالإسلام أصلاً ، كإطلاق لفظ الكفار أو الوثنيين على المسلمين ،
وعلى ذلك فالدافع الديني واضح عند البابا ، ولا شك أنه واضح أيضًا عند بعض
القساوسة والرهبان، كما أنه واضح أيضًا عند بعض الأمراء والقوَّاد .
حدود الإمبراطورية البيزنطية سنة 1081. ألكسيوس الأول كومنين
وفوق كل ذلك
فالهدف الديني هو الهدف المعلن للحملة ، وإنقاذ الدولة البيزنطية من المسلمين كان السبب
المتداول بين الناس ،
الحجاج
المسيحيين
إضافةً إلى إدِّعاء البابا أن المسلمين يضطهدون الحجاج
المسيحيين ، وإن كان واضحًا أن هذا الإدِّعاء ما ذكر إلا للإستهلاك المحلي في أوربا فقط ، ولتحميس
الجيوش والشعوب النصرانية ؛
رحلات الحج المسيحية
لأنه لم يثبت أبدًا أن المسلمين إضطدهوا الحجاج النصارى، وقد ذكر أحد كبار
المؤرخين الأوربيين وهو غيورغي فاسيلييف أن المسيحيين بوجه عام تمتعوا بقسط
وافر من الحرية الدينية وغير الدينية في ظل الحكم الإسلامي ، فلم يسمح لهم فقط
بالاحتفاظ بكنائسهم القديمة ، وإنما سمح لهم أيضًا بتشييد كنائس وأديرة جديدة ، جمعوا في مكتباتها
كتبًا دينية متنوعة في اللاهوت ، ويقول تومبسون - وهو مؤرخ :
" إن
المسيحيين الذين خضعوا لحكم السلاجقة صاروا أسعد حالاً من إخوانهم الذين عاشوا في
قلب الإمبراطورية البيزنطية ذاتها" ..
بل إن كلام
بطريرك القدس ثيودسيوس شخصيًّا في إحدى رسائله إلى بطريرك القسطنطينية سنة 255هـ = 869 -
إمتدح المسلمين ، وأثنى على قلوبهم الرحيمة ، وتسامحهم المطلق ، حتى إنهم سمحوا
للمسيحيين ببناء مزيد من الكنائس دون أي تدخل في شئونهم الخاصة ، وقد ذكر
بطريرك القدس في رسالة حقيقية مهمة حين قال: "إن المسلمين قوم عادلون ، ونحن لا
نلقى منهم أي أذى أو تعنت" ..
حجاج مسيحيين
هذه الكلمات
والشهادات وغيرها تثبت - بما لا يدع مجالاً للشك - أن كلام البابا أوربان الثاني عن إضطهاد
المسلمين للحجاج المسيحيين ما هو إلا فِرْية لا أصل لها ، وتغطية مكشوفة
على الدوافع الحقيقية وراء هذه الحملة العنيفة .
وفوق هذا
فإننا لم نَرَ في سلوك المحاربين في هذه المعارك - سواء في رحلتهم إلي بيت المقدس أو في أثناء
حروبهم - أيَّ علامات للزهد أو الورع الذي يتصف به المتدينون ، بل كانوا
في غاية السفاهة والحمق ، وبلغوا الذروة في الشر والإجرام ، بل إنهم لم
يتصفوا بذلك فقط عند تعاملهم مع المسلمين ، بل كذلك عند تعاملهم مع النصارى
الشرقيين ، وسنرى طرفًا من هذا السلوك المقيت في أكثر من موضع من مواضع
هذه القصة ، سواء مع نصارى المجر والنمسا وبلغاريا أو مع نصارى القسطنطينية
ذاتها ، التي زعموا أنهم جاءوا لإنقاذها !
إذن كان
الباعث الديني موجودًا ، ولكنه ليس هو الدافع الوحيد ، بل لا ينبغي أن يُضخَّم كثيرًا ؛ فعموم
الحملة الصليبية لم يكن يعنيهم الدين لا من قريب ولا من بعيد ، وإن كانوا
جميعًا يضعون شارة الصليب على أكتافهم ، ويدَّعون أنهم يريدون المغفرة !!
كهف بانياس الجولان حيث خاطب السيد المسيح بطرس الرسول
- 2-الباعث
الاقتصادي
وهذا الباعث
أيضًا من أهم البواعث في هذه الحملة الصليبية ، فالجموع الهائلة من العامة خرجت لإحباطها
التام من الحصول على أي قسط من رغد الحياة في أوربا ، فخرجوا يبحثون عنها في
فلسطين ، وهم لن يخسروا شيئًا ، فحتى الموت أفضل من حالتهم البائسة تحت
نير الإقطاعيين والملوك ..
والأمراء
الإقطاعيون ما خرجوا إلا بغية الثراء والتملك ، وقد كانت الحرب في فلسطين فرصة للكثيرين من أمراء
أوربا لتحقيق طموحات إستحال عليهم تحقيقها في أوربا ؛ لأن القانون الأوربي آنذاك كان يمنع تقسيم
الميراث على كل الأبناء ، بل كانت تنتقل الإقطاعية بكاملها إلى الإبن الأكبر
بعد وفاة الأب الأمير ، وذلك حتى لا تتفتت الثروة وتقلُّ الأرض ، وبالتالي تسقط الهيبة والكلمة .. وهذا الوضع خلق
جيلاً من الأمراء لا أمل عندهم في التملُّك ، فلما فتحت أمامهم أبواب الحرب في فلسطين سارعوا
جميعًا للحصول على أي ملكية ؛ لينافسوا بذلك إخوانهم الكبار .
وكان هذا
الباعث الاقتصادي واضحًا أيضًا عند تجَّار الموانئ الإيطالية ، وأشهرها البندقية وبيزا وجنوة ،
وكذلك تجَّار مرسيليا الفرنسية ، وغيرهم من تجار أوربا ؛ فقد رأى هؤلاء التجار
أن الفرصة لتحقيق المصالح الذاتية لهم ، ولو على حساب البابوية والكنيسة ,
وكان تبادل المصالح واضحًا جدًّا بينهم وبين الكنيسة ،
فالصليبيون لن
يستطيعوا الاستغناء أبدًا عن معونة الأساطيل البحرية ، والتجار سوف يأخذون
مقابلاً سخيًّا نظير هذه المعونة ، وهذا المقابل كان عبارة عن امتيازات
خاصة تُعطَى للجمهورية التي تساهم في هذه الحروب المتواصلة، ولم تكن
الامتيازات تشمل فقط حرية التجارة في البلاد المفتوحة ، بل كانوا يُعْطَون في
كل مدينة تُفتح شارعًا وسوقًا وفندقًا به حمام ومخبزًا خاصًّا ، وكان
التنافس بين الجمهوريات الإيطالية في هذا المجال كبيرًا جدًّا ، بل كان
التصارع والتقاتل ، وما لبثت مرسيليا أن سارت على نهجهم وتنافست معهم ، وأخذت امتيازات
قوية في بيت المقدس ذاته .
ولا يخفى
على أحد أن النوايا الدينية لم تشغل أبدًا أذهان هؤلاء التجار الجشعين ، وكانت كنوز الشرق
وأراضيه هي الباعث الأكبر لهم على بذل كل الجهد لإنجاح الحملة الصليبية .
-3- الباعث
السياسي
وهذا الباعث
الذي يهدف إلى توسيع النفوذ وقهر المنافسين ، كان باعثًا رئيسيًّا عند البابا أوربان الثاني
شخصيًّا ، وكذلك عند ملوك أوربا , وهؤلاء الملوك لم يكن طموحهم يقف عند شيء ، وكانت قوة كل ملك
فيهم ترتبط بالمساحة التي يسيطر عليها ، وهذا دفعهم بعد ذلك للمشاركة بقوة
في الحملات الصليبية عندما شاهدوا النجاحات التي حققتها الحملة الأولى .
كما أن ملوك
أوربا كانوا يرون أن الدولة البيزنطية دخلت طورًا واضحًا من أطوار الضعف ، ولو سقطت فإن هذا
يعني فتح الباب الشرقي لأوربا لقوات المسلمين العسكرية ، سواء من السلاجقة أو من غيرهم ، وهذا قد
يضعهم بين فكي كماشة ، أي المسلمين القادمين من الشرق والمسلمين في أرض
الأندلس ؛ لذلك رأينا أنه برغم التباطُؤ الذي رأيناه من الملوك في بداية
الحملات إلا أنهم تسارعوا بعد ذلك للمشاركة ، بل ذهب بعضهم بنفسه إلى أرض فلسطين
أو مصر على قيادة جيوشه .
-4- الباعث الاجتماعي
مرَّ بنا
عند الحديث عن الحالة في أوربا قبيل الحروب الصليبية ، الحالةُ المزرية التي كان يعيشها الفلاحون
والعبيد في أوربا ؛ ففضلاً عن قلة الأقوات وإنعدام الطعام والشراب ، كانت المعاملة في غاية السوء
، ولم يكن لهم حقوق بالمرَّة ، بل كانوا يباعون مع الأرض ، ولا يسمح لهم بأي نوع
من الملكية والإنسان قد يصبر على الجوع أحيانًا لكن الامتهان النفسي
والأذى المعنوي ، قد يكون أشد ألمًا من الجوع والعطش ؛
ولذلك رأى العوام
الفلاحون في أوربا أن هذه فرصة لتغيير نظام حياتهم ، والخروج المحتمل من قيود العبودية المذلَّة ؛ ولذلك خرج
الفلاحون بنسائهم وأولادهم ، وحملوا معهم متاعهم القليل البسيط ، لقد كان
خروجًا بلا عودة ، وتغييرًا كاملاً للأوضاع ، وثورة
حقيقية على حياة التعاسة والاستغلال ؛ لذلك سنرى أثناء الأحداث أن هذه الجموع البائسة ما صبرت حتى
تكتمل الجيوش وتنتظم ، بل خرجت بمفردها مسرعة ، وكأنها تهرب من أسرٍ طويل !
ولقد شارك
هؤلاء البائسين فريقٌ آخر من المجرمين والخارجين على القانون الذين كانوا يعانون أحكامًا قضائية
أو مهددين بذلك ، وقد وجدوا الخروج ليس فرصة للنجاة من الأحكام وحسب ،
ولكنه فرصة أيضًا لمزاولة السلب والنهب والقتل والإغتصاب كما اعتادوا ذلك
في حياتهم ؛ وهذا سيعطي الحملات الصليبية صبغة إجرامية لا يمكن تجاهلها
أبدًا .
كانت هذه هي
البواعث التي من أجلها تحركت أوربا لغزو العالم الإسلامي، والسيطرة على أرضه
ومقدراته وشعوبه .