السبت، 31 ديسمبر 2011

(2) مختصر عن الحروب الصليبية الفصل الخامس موقف الغرب (المسيحية السياسية) من الإسلام (2) مختصر عن الحروب الصليبية:أولا أسباب ضرورة العودة لدراسة وتدبر الحروب الصليبية:


 الفصل الخامس
موقف الغرب (المسيحية السياسية) من الإسلام
(2)  مختصر عن الحروب الصليبية

أولا أسباب ضرورة العودة لدراسة وتدبر الحروب الصليبية:

وهنا نقتبس من الدراسة الرائعة للدكتور/ راغب السرجاني عن الحروب الصليبية
(1) المدة الزمنية

 

 فلقد امتدت أحداث تلك الحرب لأكثر من  مائتي سنة، أي ما يمثِّل 1\7 التاريخ الإسلامي ، فإن كنا نرى للتاريخ الإسلامي أهمية ، فلا شك أن دراسة هذه الفترة أمر في غاية الأهمية .. وينبغي ألا يقل اهتمام  المسلمين بهذه الحرب وبتلك الفترة عن اهتمام الأوربيين بها  ، فلقد  اهتم بها الأوربيون وغيرهم من مفكري العالم وعلمائه ؛ فقد ظلت الحروب الصليبية مسيطرة على الفكر الأوربي وعقلية الأدباء والشعراء وعموم الناس أكثر من ثلاثة قرون متصلة ! ، وذلك من سنة - 488هـ = 1095م - حين بدأت هذه الحروب وحتى سنة - 802هـ = 1400م - بعد انتهائها بقرن كامل .

 المؤرخ نورمان كانتور

اوربان التانى بيدشن الحروب الصليبيه فى كليرمونت 1095

 بل وظل الاهتمام بها مستمرًّا في كل جامعات ومعاهد أوربا وأمريكا إلى الآن ، حتى إنه في دراسة قام بها المؤرخ نورمان كانتور وجد أن الحادث الوحيد الذي يعرفه الخريج العادي من الجامعات الأمريكية فيما يتعلق بتاريخ العصور الوسطي هو الحملة الصليبية الأولى ، ووجد أيضًا أن انطباعات هؤلاء الخريجين عن هذه الحملة إيجابية جدًّا .

(2) رصد الأيدلوجيات الواقفة خلف تلك الحرب:


ولأن هذه الفترة طويلة فإننا نستطيع أن نرصد فيها ومن خلالها الأيدلوجيات المختلفة للأطراف المتصارعة ، فإن أفكار المجتمع الغربي، وأهداف محركي الجموع والجيوش وواضعي السياسيات والنظم قد تكون شاذة عن المألوف لو كانت عابرة أو مؤقتة ، ولكن ثبات هذه الأيدلوجيات عشرات السنين أو مائتين من السنين يؤكد أن هذه الأيدلوجيات عقائد ثابتة راسخة ، وليس مجرَّد فكرة طارئة خرجت من ذهن متهوِّر أو جاهل .

 پطرس الناسك على حماره بيقود الحملة الصليبية الشعبية 1096

وبهذا سنفهم خلفيات الغرب الأوربي في تعامله ثم في صراعه ثم في  حربه مع المسلمين ، وهي الخلفيات التي حكمت الصراع قديمًا بين المسلمين والنصارى من الدولة الرومانية ، كما سنفهم خلفيات المجاهدين المسلمين وطرقهم في الحرب وفي المعاهدة , وفي التعامل مع غير المسلمين ، ومناهجهم في التغيير .

فذلك سيساعدنا في فهم نفسيات البشر من الغرب الصليبي فيما يقولون أو يفعلون ، وأدبيات الصراع بين القوى المختلفة ، خاصةً إذا كان الإسلام طرفًا في القضية .

(3) التشابه بين الماضي والحاضر



 يبرز احتياجنا لدراسة الحروب الصليبية بدرجة أكبر عند رؤية التشابه العجيب بين هذه الحقبة القديمة التي مرَّ عليها أكثر من تسعة قرون ، وبين زماننا المعاصر الذي نعيش فيه الآن ..




 

 فكما قامت قوات التحالف الغربي بغزو العالم الإسلامي ، وكما رأينا التكاتف بينهم لحرب واحدة ، وكما رأينا التعاون بين الساسة والحربيين ورجال الدين وأهل الاقتصاد والعلوم لإمضاء هذه الحرب وإنفاذها ، فإننا نرى الآن نفس هذا التكاتف والتعاون والتنسيق لحرب العالم الإسلامي في أكثر من بقعة .

 

وكما رأينا غزو الصليبيين للشام وفلسطين وأجزاء من تركيا ومصر بل والحجاز ، نرى الآن الهجمات المستمرة والجهود المتتالية التي نجحت في أماكن كثيرة من العالم الإسلامي مثل فلسطين والعراق وأفغانستان والشيشان وكشمير والبوسنة وكوسوفو ، ونراها تخطط بحرص وتدبير في السودان والصومال ولبنان وسوريا ، وليست مصر أو إيران و باكستان أو تركيا ببعيدة عن هذا الخطر .
 

 مملكة بيت المقدس الصليبية

وكما رأينا كيانًا غريبًا يُزرع في فلسطين عُرف بعد ذلك بمملكة بيت المقدس الصليبية ، ورأينا هذا الكيان يستمر عشرات السنين ، ورأيناه يُمَدُّ بكل أنواع المساعدة من الغرب الصليبي ، رأينا أيضًا الآن الكيان اليهوديّ يُزرع في نفس الأرض ، في فلسطين ، ويُمد بكل أنواع المساعدة بل والحماية من الغرب الصليبي أيضًا . 

وكما رأينا الفكر الاستيطاني الذي كان من ضمن بواعث الحروب الصليبية ، وكيف أنهم جاءوا برجالهم ونسائهم وأطفالهم لا لينتصروا في معركة ويعودوا بغنائم ، ولكن ليعيشوا ويستقروا ويمتلكوا وينسوا تمامًا روابطهم القديمة وجذورهم الأصلية ؛ كما رأينا ذلك رأينا الآن اليهود يقومون بنفس الشيء ويهاجرون إلى الأرض المباركة بكل عائلاتهم ليستقروا بلا عودة .

 



وكما رأينا التخاذل من كثير من زعماء العرب والمسلمين ، وظهور نماذج مخزية في تاريخ الحروب الصليبية تفسِّر الانهيارات المروعة التي حدثت في مقاومة المسلمين للمدِّ الصليبي ، نرى الآن نفس التخاذلات وبنفس الروح وبصورة تكاد تتطابق، فلا يهب جيشٌ ولا زعيم لنصر المكروبين في بلاد العالم الإسلامي المحتل .

 

وكما رأينا حرصًا من أعداء الأمة على منع الوحدة بين ولايات الشام ، وعلى منع الوحدة بين مصر والشام ، وعلى منع الوحدة بين أي زعيمين مسلمين ؛ لأن في هذا بقاء لهم أطول وأعظم ، رأينا نفس الحرص من الغرب الصليبي في زماننا، وقد نجحوا في ذلك أيَّما نجاحٍ ؛ فلا تكاد ترى قطرين مسلمين متجاورين إلا وبينهما صراع ونزاع . 

 

 


وأوجه التشابه أكثر من أن تحصى ! ، وعند دراسة القصة بشكل تفصيلي سنشعر وكأننا لا نقرأ صفحات من تاريخ مضى ، ولكن نقرأ واقع حياتنا ، وقصة مجتمعاتنا التي نعيش فيها الآن .

(4) السُّنَّة والشِّيعة

 يظهر أيضًا بجلاء في قصة الحروب الصليبية الاختلاف الفكري والفقهي والعقائدي في قضية حسَّاسة جدًّا داخل كيان الأمة الإسلامية ، وهي قصة : السُّنَّة والشِّيعة ! ، وذلك أن الأحداث تدور في منطقتي الشام ومصر ، وهما واقعتان تحت سيطرة سلجوقية سُنِّيَّة من جهة ، وعبيديّة فاطمية شيعية من جهة أخرى ، وهذا أفرز مواقف كثيرة تعين على فهم دقائق الأمور في زماننا الآن ، وكذلك مستقبلا ً، حيث تلاعب الغرب الغرب الصليبي بالفريقين في الماضي والحاضر بما يخدم مصالحه وأهدافه.



(5) الفائدة المستقبلية:

 

فدراسة الصراع مع الصليبيين ليس أمرًا مفيدًا لواقعنا فقط ، بل هو مفيد لمستقبلنا أيضًا ؛ فمن الواضح أنه لن يأتي زمانٌ تندثر فيه هذه الصراعات وتلك الصدامات ، ولكنها قد تهدأ أحيانًا وتنشط أحيانًا أخرى ، ولكنها على كل حال ستستمر إلى يوم القيامة .. وفي ذلك جاءت أحاديث مختلفة لرسول الله - صلي الله عليه وسلم - وهي أحاديث صحيحة تؤكد استمرار هذه الصورة الحادَّة من العلاقة ؛ ومن هذه الأحاديث مثلاً : عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّه - صلي الله عليه وسلم - قَالَ: " لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَنْزِلَ الرُّومُ بِالأَعْمَاقِ أَوْ بِدَابِقٍ ، فَيَخْرُجُ إِلَيْهِمْ جَيْشٌ مِنَ الْمَدِينَةِ مِنْ خِيَارِ أَهْلِ الأَرْضِ يَوْمَئِذٍ ، فَإِذَا تَصَافُّوا قَالَتْ الرُّومُ : خَلُّوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الَّذِينَ سَبَوْا مِنَّا نُقَاتِلْهُمْ . فَيَقُولُ الْمُسْلِمُونَ : لاَ وَاللَّهِ لاَ نُخَلِّي بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ إِخْوَانِنَا . فَيُقَاتِلُونَهُمْ فَيَنْهَزِمُ ثُلُثٌ لاَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أَبَدًا ، وَيُقْتَلُ ثُلُثُهُمْ أَفْضَلُ الشُّهَدَاءِ عِنْدَ اللَّهِ ، وَيَفْتَتِحُ الثُّلُثُ لاَ يُفْتَنُونَ أَبَدًا فَيَفْتَتِحُونَ قُسْطَنْطِينِيَّةَ ، فَبَيْنَمَا هُمْ يَقْتَسِمُونَ الْغَنَائِمَ قَدْ عَلَّقُوا سُيُوفَهُمْ بِالزَّيْتُونِ إِذْ صَاحَ فِيهِمْ الشَّيْطَانُ : إِنَّ الْمَسِيحَ قَدْ خَلَفَكُمْ فِي أَهْلِيكُمْ . فَيَخْرُجُونَ وَذَلِكَ بَاطِلٌ ، فَإِذَا جَاءُوا الشام خَرَجَ ، فَبَيْنَمَا هُمْ يُعِدُّونَ لِلْقِتَالِ يُسَوُّونَ الصُّفُوفَ إِذْ أُقِيمَتْ الصَّلاَةُ فَيَنْزِلُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ - عليه السلام - فَأَمَّهُمْ ، فَإِذَا رَآهُ عَدُوُّ اللَّهِ ذَابَ كَمَا يَذُوبُ الْمِلْحُ فِي الْمَاءِ ، فَلَوْ تَرَكَهُ لاَنْذَابَ حَتَّى يَهْلِكَ ، وَلَكِنْ يَقْتُلُهُ اللَّهُ بِيَدِهِ فَيُرِيهِمْ دَمَهُ فِي حَرْبَتِهِ".

(6) كشف التزوير:


من الدوافع المهمة لدراسة هذه الحقبة الخطيرة من تاريخ الأمة ، التزوير الذي حدث في القصة ، وبصورة مكثفة ! ؛ وذلك لثراء القصة أدبيًّا ، وولع الكتّاب والمؤلِّفين والأدباء بها ، سواء من المسلمين أو الغربيين .

 

ولا يخفى على أحد أن الأديب لا يهتم كثيرًا بصحة الوقائع التاريخية ، بقدر ما يهتم  بما يراه يخدم القصة ، بل قد يخترع شخصيات وهمية ، أو يخترع قصصًا وهمية لأشخاص حقيقيين لتأييد معنى أو ترسيخ فكرة ، وهذا يشوِّش على الناس الكثير من الحقائق ، ويصبح المستمع أو القارئ رهينة لفكر المؤلف أو الأديب , هذا فوق التزوير المغرض والتحريف المتعمد الذي استهدف في الأساس تشويه الرموز الإسلامية وتعظيم النوايا الصليبية ، وإظهار الموضوع بشكل مغاير تمامًا للحقيقة ..

 ولعل من أكبر التزويرات في تاريخ الحروب الصليبية هو إطلاق هذا الاسم عليها ! فالحروب الصليبية لم تكن معروفة بهذا الاسم طيلة الفترة التي حدثت فيها ، بل والتي تبعتها ولم يعرف هذا الاسم إلا في القرن الثامن عشر الميلادي وما بعده ، وكان الجميع يطلق على الحروب الصليبية أسماء أخرى مثل : الحملة ، أو رحلة الحجاج ، أو الرحلة للأراضي المقدسة ، أو الحرب المقدسة ؛ أما لماذا اشتهر هذا الاسم فلكونه يحمل معنى الحرب النبيلة ! ، ويُوحِي بالشجاعة والتضحية ، ويعبِّر عن الفداء الذي يحبه النصارى ، وهي جميعًا صفات لم توجد البتَّة في هذه الحروب ، بل كانت حروبًا تجسِّد كل معاني القسوة والعنف والظلم والإجرام ، ولكن الانطباع العام عند الأوربيين والأمريكيين أنها كانت حرب نبيلة تهدف إلى غايات سامية ، واستعملت وسائل شريفة ؛ وهذا يفسِّر الكلمة , التي قالها جورج بوش رئيس الولايات المتحدة الأمريكية وهو يصف الحرب الأمريكية على العراق بأنها "حرب صليبية" .


فهو لا يعني بهذه الكلمة أيَّة ميولٍ عدوانية، إنما هو يسترجع الموروث الثقافي عنده وعند الشعوب النصرانية الأمريكية وغيرها، ومن ثَمَّ يوجه رسالة مباشرة وغير مباشرة إلى كل هذه الشعوب أن هذه الحرب نبيلة وشريفة، وتضحِّي فيها أمريكا من أجل سعادة الإنسانية .

 

ومع هذا الخلط الشديد في مصطلح الحروب الصليبية إلا أن الخروج منه أصبح صعبًا جدًّا ، وخاصةً أن الأجيال الأخيرة من المؤرِّخين المسلمين درست في معظمها على أيدي العلماء الأوربيين ، وبالتالي تبنَّوا دون مقاومة نظرياتهم وتحليلاتهم وتقسيماتهم للتاريخ ومصطلحاتهم في وصفه ، ولم يعُدْ يجدي هنا أن نتحدث عن الحملة الاستعمارية الأولى ، أو عن حملة أوربا الغربية ، أو عن حروب النصارى أو غير ذلك من المصطلحات ؛ لأنها كلها ستصرف الذهن حتمًا إلى شيء آخر غير ما نعنيه من معارك وأحداث ..

(7) تحليل الأهداف والبواعث لتلك الحرب:

  البابا باسكال التانى خلف اوربان التانى و اعتبر انتصار الصليبيين تحقيق لنبؤات الكتاب المقدس.

من أهداف دراسة الموضوع أيضًا تحليل الأهداف والبواعث التي كانت وراء هذه الهجمة الصليبية الشراسة ، وذلك أن المؤرِّخين والمحلِّلين انقسموا في ذلك إلى فرق شتى ؛ فمنهم من يؤكِّد الدافع الديني وآخرون يؤكدون الدوافع الاقتصادية ، وفريق ثالث يؤكد الدوافع السياسية ، وفريق رابع يؤكد الأبعاد الأخلاقية لهذه الحرب ، وفريق خامس يجمع عاملين أو ثلاثة ، أو يجمع كل العوامل مع تقديم وتأخير ، وحذف وإضافة .

 

تجار البندقية وتمويل الحروب الصليبية

فهذا موضوعٌ أعملَ فيه الكثيرُ والكثير فكرهم وذهنهم وجهدهم ، واختلفت فيه التفسيرات بحسب الخلفيات العقلية والعلمية والدينية لكل محلِّل أو دارس .

ثامنًا : إيضاح الصفحات المشرقة لجهاد الكثير من أعلام المسلمين ومجاهديهم

 البطل صلاح الدين الأيوبي

من أسباب هذه الدراسة أيضًا إيضاح الصفحات المشرقة لجهاد الكثير من أعلام المسلمين ومجاهديهم ؛ فإن معظم من تناولوا هذا الحدث قصروا الجهد كله على صلاح الدين الأيوبي رحمه الله ، وهو وإن كان مجاهدًا من أعظم المجاهدين في تاريخ المسلمين إلا أنه ليس الوحيد الذي حمل راية الجهاد في قصة الصليبيين ، فهناك الكثير ممن سبقوه ، وكذلك ممن لحق به ، ومع ذلك لم يسمع بهم معظم المسلمين ، وآلا فمن يعرف مودودًا ؟! ومن يعرف سقمان بن آرتق ؟! ومن يعرف آق سنقر ؟! وغيرهم وغيرهم من المجاهدين العظماء ، بل مَن يعرف تفاصيل حياة المشهورين من أمثال عماد الدين زنكي ، ونور الدين محمود ، ونجم الدين أيوب ، وغيرهم من أبطال الإسلام ؟!

السلطان ألب أرسلان

فدراستنا لتلك الحرب من جديد ستثبت لنا أن الجهد الذي بذل لتحرير بلاد الإسلام إنما هو جهد أمة وليس جهد أفراد ، وأن هناك من الأتقياء الأخفياء في تاريخنا ما لا يتخيله إنسان ، وأن الأمة لا تزال - ولن تزال - بخير إلى يوم القيامة .

نور الدين محمود

(9) إغفال دور العلماء:

 



أغفل الكثير من المحللين أيضًا دور العلماء في تحرير بلاد المسلمين من الصليبيين ، فلا يوجد لهم حديث إلا عن القوَّاد والمقاتلين ، وليس هناك تفصيل إلا في المعارك العسكرية ، والصدامات الحربية .. وهذا مخالف لطبيعة الأشياء ، ولسنن التغيير في هذه الأمة ، التي ارتبط التغيير فيها من الهزيمة إلى النصر، ومن العزة إلى الانكسار ارتباطا وثيقًا بقضية العودة إلى الله وتطبيق الشرع ، والحرص على الحلال ، ونبذ المنكر والحرام , وهذه أدوار يقوم بها العلماء المخلصون ، وهم في قصة الحروب الصليبية كُثُر ، ولكن لم يركز عليهم إلا قليل القليل من المؤلِّفين والمحلِّلين ، مع أنه بغير فَهْم دورهم والتركيز عليه ، لن نستطيع أن نفهم طريقة البناء ، ولا أسلوب الخروج من الأزمة .

(10)  الآثار الناتجة :

وندرس الحروب الصليبية أيضًا لأن الآثار الناجمة عنها آثار هائلة ضخمة ، لم تكن محدودة بفترة الـ 200 سنة التي وقعت فيها هذه الحروب ولكنها امتدت بعد ذلك طويلاً ، وليس لعدة سنوات بل لعدة قرون , بل إننا ما زلنا إلى لحظتنا هذه نعاني من آثار هذه الحروب المريرة .. ولعل من أبرز الآثار المباشرة لهذه الحروب هو توقُّف المد الحضاري الإسلامي العظيم ، الذي كان في أوج عظمته ، وأبلغ مظاهره ، حتى جاء الصليبيون فشغلوا طاقات الأمة وجهودها في حروبهم ، وبالتالي استنزفت كل الطاقات ، وتبدَّدت كل الجهود ، ووقفت المسيرة الخالدة التي حمل المسلمون رايتها عدة قرون متتالية.

الملك الكامل وفردريك الثاني

ثم إنه من الناحية الأخرى - وبعد هذه الحروب الصليبية الشرسة - أخذ الصليبيون التراث العلمي الإسلامي العظيم من بلاد المسلمين ، وخاصةً الأندلس وصقلية ، وأحيانًا من بلاد الشام ، ثم بدءوا بشغفٍ واهتمام يترجمونه ويعكفون على دراسته وتطبيقه ، وكان هذا - لا شكَّ - نواةً للحضارة الأوربية التي قامت في القرن الخامس عشر وما بعده , وهذا كما نري ، تغيرٌ محوري في مسيرة البشرية، قاد أمة إلى تخلفٍ وانحدار ، وقاد أمة أخرى إلى علوٍّ وازدهار .. نَعَمْ ليس هذا هو العامل الوحيد لهذه الأزمة التي مرت بها الأمة الإسلامية ، ولكن لا شكَّ أنه من أهمِّ العوامل .

 الصليببون اعتبروا عنفهم حرب عادلة
(11) المقارنة بين الحروب الصليبية والفتوحات الإسلامية ولعل هذا يجرُّنا إلى الحديث والتعليق على الفتوح الإسلامية ، ومقارنتها بالحروب الصليبية ، وشتَّان ، فالدوافع والوسائل والنتائج كلها مختلفة تمام الاختلاف .. فالدوافع الإسلامية كانت رفع الظلم عن كواهل الشعوب ، والتعريف بدين الإسلام دون قهر أو إجبار ، ثم إنها كانت - في كثيرٍ من الأحيان - دفاعًا عن تعدٍّ صارخ من القوى المختلفة المحيطة بالمسلمين .. والوسائل الإسلامية في الحروب كانت في منتهى الرقي ، ولعل الأمة الإسلامية هي الوحيدة التي عرفت معنى أخلاق الحروب ، وأهم ما يميِّز هذه الحروب هو البعد تمامًا عن إيذاء المدنيين ، وكذلك حسن المعاملة للأسرى ، بل والتعامل النبيل الشهم مع قادة العدوِّ عند التمكُّن منهم .
ونتائج الحروب الإسلامية كانت مختلفة كذلك عن نتائج حروب الآخرين ، فبينما جعل الآخرون من هممهم هدم الحضارة ، ووقف مسيرة الإنسانية ، جعل المسلمون من هممهم نشر العلم والفضيلة ، والأخذ بأيدي الشعوب إلى أسمى معاني الرقي والتقدم .

ولينظر كل منصف إلى الأندلس قبل الإسلام وبعده .
ولينظر إلى مصر قبل الإسلام وبعده .
ولينظر إلى المغرب قبل الإسلام وبعده .
ولينظر إلى بخاري وسمرقند ومدن الشام واليمن وغيرهم قبل الإسلام وبعده .
لقد كانت نقلة حضارة إنسانية بكل المقاييس .. وهذا لم نره أبدًا في الحروب الصليبية ، ولا في أيِّ حروب لم تحتكم إلى دين صحيح أو خُلُق قويم