الجمعة، 6 يناير 2012

سادسا: - الدعوة للحملة الصليبية الأولي الفصل الخامس: موقف الغرب ( المسيحية السياسية ) من الإسلام (2) مختصر الحروب الصليبية سادسا: - الدعوة للحملة الصليبية الأولي


الفصل الخامس:

موقف الغرب ( المسيحية السياسية ) من الإسلام

(2) مختصر الحروب الصليبية

سادسا: - الدعوة للحملة الصليبية الأولي

تولى الكرسي البابوي في سنة 480هـ =1088 - رجل من الرجال المهمين في الكنيسة الغربية ، وكان لولايته الأثر في تغيير عدة صفحات متتالية من التاريخ ، بل ولعل الآثار التي أحدثها هذا الرجل ما زالت موجودة إلى الآن , وهذا الرجل هو أوربان الثاني الذي تولى الكرسي البابوي في روما إحدى عشرة سنة ، وذلك من سنة 480ه = 1088 - إلي سنة 492هـ = 1099 - وكان هو الآخذ لقرار الحروب الصليبية على المشرق الإسلامي .

أوربان الثاني !
وكان أوربان الثاني رجلاً ذكيًّا سياسيًّا لبقًا ، وكان خطيبًا مفوَّهًا ، وكان أيضًا جريئًا حاسمًا ، وكان مطلعًا على أحوال العالم المعاصر له ، وفوق كل ذلك كان يُكِنُّ حقدًا كبيرًا على المسلمين
 سواء في بلاد المشرق حيث يحكمون أرض المسيح عليه السلام 
 أو في الأندلس حيث يحكمون قطعة أوربية مهمَّة على مدار أربعة قرون متتالية حتى زمان تولِّيه البابوية , ثم إنه كان رجلاً ذا طموح كبير ، وأحلام واسعة بأن يكون هو الزعيم الأكبر والأوحد للمسيحيين جميعًا في العالم ، وذلك بتوحيد الكنيستين الغربية والشرقية ؛ استكمالاً لجهود البابا الذي سبقه وهو جريجوري السابع .
البابا جريجوري السابع .

وكانت العلاقات كما ذكرنا قبل ذلك قد تحسنت نسبيًّا بين البابا السابق جريجوري السابع والإمبراطور البيزنطي ألكسيوس كومنين ، ولقد طلب هذا الأخير المساعدة قبل ذلك من جريجوري السابع لنصرته ضد السلاجقة المسلمين ، ولكن حركة جريجوري السابع لم تكن بالقوة المناسبة، ومن ثَمَّ فلم يكن هناك تحرك يُذكر لمساعدة البيزنطيين .

 

الإمبراطور البيزنطي ألكسيوس كومنين

غير أن الإمبراطور البيزنطي كرَّر المحاولة مرة ثانية ، وأرسل وفدًا جديدًا إلى إيطاليا في مارس سنة 487هـ = 1095 - لمقابلة البابا أوربان الثاني ، وتجديد طلب المساعدة منه .. وفكر البابا أوربان الثاني في الأمر ، ووجد أنه لو إستجاب لطلب الإمبراطور البيزنطي ، وعلى نطاق واسع ، فسوف يحقِّق عدة أهداف في غاية الأهمية ، وفي ضربة واحدة 

  ويمكن حصر أهداف البابا أوربان الثاني  في النقاط التالية


أولا: أنه سيعيد إبراز دور الكنيسة في حياة الأوربيين ، حيث سيحمل البابا من جديد دعوة تهمُّ كل الشعوب الأوربية ، وهي دعوة ستحمل بين طياتها الغفران الذي يبحث عنه الناس آنذاك بين يدي البابا .

حدود الإمبراطورية البيزنطية سنة 1081. ألكسيوس الأول كومنين

ثانيًا  :سيقوم البابا بحملة عسكرية تشمل التنسيق بين ممالك وإمارات أوربا المختلفة ، وسيحتفظ بالقيادة في يده ، فهو بذلك سيستعيد سلطان الكنيسة العسكري والسياسي على كامل أوربا ؛ وحيث إن القضية ذات طابع ديني ، فالذي سيرفض قد يعاقب بالحرمان ، وسحب الثقة ، وقد يؤدِّي ذلك إلى زلزلة عرشه ، وبالتالي يصبح البابا هو الشخصية الأولى في أوربا سياسيًّا كما هو دينيًّا .

فرسان المعبد والذي كان لهم شهرة أيام الحروب الصليبية  
ثالثًا :لن يتحسن وضع البابا دينيًّا وسياسيًّا فقط ، بل سيتحسن اقتصاديًّا أيضًا ، فالبلاد التي ستفتح ستدر أموالاً كثيرة ، والأوربيون الذين لن يستطيعوا المشاركة سيدفعون للكنيسة الأموال ؛ تكفيرًا عن إمتناعهم عن الذهاب لفلسطين .
ممثل البابا يطوف على المدن والقرى يبيع صكوك الغفران

رابعًا :الثروات التي ستأتي من فلسطين والشام ، ستحل المشاكل الاقتصادية الطاحنة التي تعاني منها أوربا؛ وبذلك ستستقر الأوضاع المضطربة في أوربا .

خامسًا :ستنصرف طاقات أوربا العسكرية إلى حرب خارجية يُبرِزون فيها قدراتهم ويستنزفون فيها رغباتهم العنيفة ، وذلك بدلاً من التصارع الداخلي بين الإمارات والإقطاعيات .

  هذة الخريطة تتكلم عن نفسها عن الحروب في تلك الفترة و منها ( الحروب الصليبية

سادسًا :ستشن أوربا الصليبية حربًا على العدو التقليدي لهم وهم المسلمون ، وهي حرب في نظر البابا لا نهاية لها ، ولن يرضى من المسلمين بشيء إلا بتغيير الدين .

  أنا مسلم أقتلني و قم بتسميتها أضرار جانبية


سابعًا :سيقوم البابا بذلك بنجدة آلاف الفقراء الذين يموتون في أوربا سنويًّا نتيجة الجوع والمرض والبرد ، وسيشعر الجميع بذلك بالرضا نحوه

الفقر والجوع من دوافع الحروب الصليبية

ثامنًا: ستتاح للبابا الكاثوليكي الفرصة الذهبية ليضم الكنيسة الشرقية الأرثوذكسية إلى كنيسته الكاثوليكية ، وذلك تحت سيطرته هو ، فهو الذي جاء من أقصى البلاد لينقذ النصارى الشرقيين من المسلمين .

 
بقرار من مجمع روما المنعقد عام 1869م وصار للبابا حق الطاعة العمياء

تاسعًا :سيحقِّق حُلمًا عاطفيًّا دينيًّا قديمًا ، بالسيطرة على الأرض التي وُلد فيها المسيح وعاش .

 
عاشرا   قد لا تتكرر بعدُ ذلك الفرصة المناسبة التي تبرر للشعوب هذه الحروب الضخمة والتضحيات الهائلة، فالآن النصارى الشرقيون يستغيثون ، ومن ثَمَّ فهناك مسوّغ أن تنفق الأموال ، وتُزهَق الأرواح لنجدتهم ، وستصبح صورة الحرب نبيلة ، وستسكت الشعوب الأوربية عن مساءلة البابا عن الثمن الباهظ الذي سيدفعه في هذه الحروب ، بينما لو كان المبرر للقتال ليس واضحًا فقد يَفْقد البابا عرشه إذا خسرت أوربا كثيرًا في حربها 
ألب أرسلان يطأ عنق  رومانوس الرابع إمبراطور الدولة البيزنطية
وذلك مثلما حدث مع رومانوس الرابع إمبراطور الدولة البيزنطية ، الذي خُلع من منصبه بعد الهزيمة الساحقة من السلاجقة في موقعة ملاذكرد .. فالبابا سيحقق كل المكاسب بإستغلال هذه الفرصة ، ولن يخسر شيئًا لو حدث مكروه للجيوش ؛ لأنه في النهاية يحارب من أجل أهداف نبيلة فيما يبدو للناس .

ومن هنا فإن البابا تحمَّس كثيرًا للطلب الذي طلبه الوفد البيزنطي الأرثوذكسي ، بل إنه جعل الوفد يقابل المجمع الكنسي المجتمع في إيطاليا آنذاك ؛ ليعرض صورة الوضع في الشرق ، وذلك يكون أبلغ في التأثير في القساوسة ، وينفي عن البابا شبهة التخطيط المنفرد للحملة ودون سبب واضح , وقد تحمس الحضور للفكرة ، وتكلم البابا مؤيدًا لكلام الوفد البيزنطي ، وقرر أن يُعِدَّ العدة لأخذ التدابير اللازمة لغزو الشرق الإسلامي

بابا روما أوربان الثاني يبدأ رحلته في فرنسا داعياً إلى الحروب الصليبية

لقد قرَّر البابا أوربان الثاني أن يعقد مجلسًا كنسيًّا كبيرًا يضم القساوسة من أطراف أوربا الغربية ، وذلك لبحث أحوال الكنيسة المتردية ، ثم في نهاية هذا المجلس الكنسي يعقد مؤتمرًا موسعًا يدعو إليه أمراء الإقطاعيات المختلفة ، وكذلك الملوك إن أمكن , بل ويدعو إليه عامَّة الشعب ؛ ليصبح مؤتمرًا جماهيريًّا مؤثرًا ، وفي هذا المؤتمر سيدعو إلى التوجُّه عسكريًّا إلى فلسطين .


هنري الرابع ملك ألمانيا

كان البابا على خلاف مع معظم ملوك أوربا ، وخاصةً هنري الرابع ملك ألمانيا ، ولكنه كان على علاقة طيبة مع أمراء الإقطاعيات ، وخاصةً في فرنسا ؛ ولذلك قرر البابا أن يستفيد من علاقاته هذه مع الأمراء في فرنسا فيعقد المؤتمر هناك ، وخاصةً أن الكثافة السكانية في فرنسا كبيرة ، إضافةً إلى المجاعة الكبيرة التي ضربت شمال فرنسا وشرقه في السنوات العشر الأخيرة ، مما أثَّر في الظروف الاقتصادية ، وبالتالي سيكون قبولهم لفكرة الحروب ضد الشرق الإسلامي فكرة مقبولة لإخراجهم من أزماتهم الكثيرة

 

ومن ثَمَّ قرر البابا أن يعقد مؤتمره الجامع في مدينة  الفرنسية كليرمونت  وذلك في 27 من نوفمبر سنة 1095م ، وقد آثر أن يكون الوقت متأخرًا نسبيًّا ؛ ليكون هناك فرصة لتبليغ الدعوة في أطراف فرنسا ، وليحضر أكبر عدد من الفرنسيين , كما آثر ألا يكون المؤتمر في باريس ؛ لكي لا يصطدم مع فيليب الأول ملك فرنسا ، الذي كان على خلاف مع البابا ، وأيضًا على خلاف مع أمراء الإقطاعيات الذين يعتمد عليهم البابا في مهمته .

معركة ليغنيتسا عام 1241، منقولة عن لوحة من القرون الوسطى

كان البرد شديدًا في ذلك اليوم ، ومع ذلك فقد لبَّت جموع هائلة دعوة البابا ، وإجتمعوا في أحد الحقول الفسيحة في كليرمون ، بل وامتلأت القرى والمدن المجاورة لكليرمونت بالقادمين من كل مكان لسماع الخطبة المهمة التي كان البابا يرتِّب لها منذ سبعة أشهر كاملة ..

خطب البابا خطبة طويلة عصماء ، وكان بليغًا مفوهًا ، وصبرت الجموع في البرد الشديد ، بل وتفاعلت تفاعلاً كبيرًا مع كلمات البابا ، الذي ضرب على أكثر من وتر في خطبته ؛ وذلك ليؤثِّر في كل الحضور علي إختلاف نوعياتهم وظروفهم وأهدافهم .

البابا أوربان الثاني وهو يخطب في إجتماع كليرمونت .

وقد جاءت خطبة البابا في أكثر من رواية من الروايات الأوربية التي صوَّرت الحدث ، وإستخدم فيها أكثر من وسيلة لإقناع الحضور بضرورة التوجه إلى فلسطين لنجدة النصارى الشرقيين ، ولحماية الحجاج المسيحيين الذين يعانون - كما يصور البابا - من ظلم وبطش الكفار وهو يقصد المسلمين !  

وكان من المؤثرات التي استخدمها البابا في خطبته أنه لا يتكلم في هذه الخطبة نيابة عن نفسه، وإنما يتكلم نيابة عن المسيح عليه السلام نفسه ، فقال مثلاً : "ومن ثَمَّ فإنني لست أنا ، ولكن الرب هو الذي يحثكم باعتباركم وزراء المسيح أن تحضوا الناس من شتى الطبقات " ، وإستخدم فيها نصًّا من إنجيل لوقا فيه : "ومن لا يحمل صليبه ، ويأتي ورائي فلا يقدر أن يكون لي تلميذًا" .

أوربان الثاني يمنح صكوك الغفران لمنْ استجاب لدعوته وشارك في الحرب الصليبية

وكان من المؤثرات أيضًا أنه وعد المشاركين في الحملة بالغفران ، وهو مطلب جماهيري في ذلك الوقت ، خاصةً مع شعور الناس أن الدنيا ستفنى قريبًا كما وضحنا قبل ذلك ، وكان من كلام البابا في هذه النقطة أنه قال : "إني أخاطب الحاضرين، وأعلن لأولئك الغائبين ، فضلاً عن أن المسيح يأمر بهذا ، أنه سوف يتم غفران ذنوب كل أولئك الذاهبين إلى هناك ، إذا ما إنتهت حياتهم بأغلالها الدنيوية ، سواء في مسيرتهم على الأرض ، أو أثناء عبورهم البحر ، أو في خضم قتالهم ضد الوثنيين - يقصد المسلمين ، وهذا الغفران أمنحه لكل من يذهب بمقتضى السلطة التي أعطاني الرب إياها ".

صكوك الغفران كانت عبارة عن أختام ممضاة من البابا أو من ممثّلي المجمع الكنسي

وهو في هذا المقام يقول للجميع أنكم في كل الأحوال محققون للفائدة والخير ، فحتي لو وصل الأمر لحدِّ الموت ، فإن المشارك سيموت وهو مغفور الذنب ..

بطرس الناسك وهو راكع أمام البابا أوربان الثاني

وكان من المؤثرات أيضًا أنه إستفاض في تصوير مدى الألم والمعاناة التي يشعر بها الحجاج النصارى في فلسطين، وهذا كله من الكذب والزور، ولكنه صوَّر القضية كقضية إنسانية مؤثرة .

سبيل ماء في القدس

وكان من المؤثرات أيضًا أنه لوَّح بوضوح بالثراء الذي عليه بلاد الشرق ، بل إنه ذكر لهم ما جاء في الإنجيل عن أرض فلسطين حيث قال : " ووهبنا هذه الأراضي التي تفيض لبنًا وعسلاً " يقصد فلسطين ، وبذلك حرَّك عواطف الفقراء والأمراء معًا ؛ فالفقير يبحث عن الحياة ، والأمير يبحث عن التوسع والتملك .

وكان من المؤثرات أيضًا أنه نبَّه الفرسان إلى وجود ميدان خصب لاستعراض قوتهم ، وإبراز كفاءتهم بدلاً من التصارع معًا ، وإخلال الأمن في داخل أوربا ، وكان من المؤثرات أيضًا امتداح شجاعة الفرنسيين وقدراتهم القتالية ، وأيضًا امتداح تاريخ أسلافهم ، وتحميلهم تبعات سيادة أوربا وريادتها ..

وكان من المؤثرات أيضًا جذب المديون بوضع الدَّين عنه إذا شارك في القتال أو تقسيطه على فترات طويلة، وإعفاء أملاك الملاَّك من الضرائب أثناء القتال ، وإعفاء المجرمين من العقاب على جرائمهم إنْ هم شاركوا في الحملة .

القدس قبيل الحروب الصليبية

ولقد صاغ البابا أوربان الثاني كل هذه المؤثرات بأسلوب بديع ، وكلمات مؤثرة ، وحجج مقنعة حتى دخلت كلماته قلوب كل الحضور ، وأشعلت - رغم البرد الشديد - حماسة كل السامعين ، حتى إنه بمجرد الانتهاء من كلمته استجاب الحضور استجابة هائلة ، وقاموا يطلقون صيحة واحدة ، يقولون فيها: " الرب يريدها Deus lo volt ، وهي الصيحة التي صارت شعارًا للحرب بعد ذلك ..

ومن الجدير بالذكر أن البابا أوربان الثاني نفسه لم يكن يتوقع هذه الاستجابة الهائلة من الناس ، بل إن هذه الإستجابة الضخمة أقلقته ؛ لأنه كان يريد الاعتماد على الفرق النظامية والجيوش المدربة وليس العوام من الناس ، ولكن العامَّة وجدوها فرصة للهروب من أزماتهم ومشاكلهم وديونهم وجوعهم ومرضهم ، وبالتالي لم يكن هناك فرصة للتراجع .

لقد كانت ثورة حقيقية في فرنسا ، ومنها انتقلت إلى كل غرب أوربا ، وفي هذا المؤتمر أعلن البابا أوربان الثاني أنه على كل من قرَّر الخروج إلى هذه الحملة أن يحيك صليبًا من قماش أحمر ليضعه على كتفه ؛ إشارةً إلى دينيَّة الحملة ، ونبل المقصد !

غير أن البابا لم يكتف بالحماسة الطاغية في المؤتمر ، إنما أتبع ذلك بخطة عمل محكمة تضمن استمرارية الحماسة ، وقوة التفاعل ؛ ولذلك فقد قام البابا بعدة خطوات مؤثرة، كان منها ما يلي :

أولاً : الحرص على وجود الغطاء الكنسيّ ، والهيمنة البابوية على الحملة من بدايتها الأولى ؛ ولذلك عيَّن في يوم مؤتمر كليرمونت الأسقف أديمار دي مونتي أسقف لوبوي Le Puy قائدًا عامًّا رُوحيًّا للحملة، وكان بمنزلة نائب البابا في هذه الرحلة .

ثانيًا : تواصل البابا مع كل المجامع الدينية في أوربا الغربية ؛ ليأخذوا على عاتقهم مهمة تحميس الناس في مدنهم وقراهم، وبذلك تنتشر الدعوة إلى الحرب في كل مكان .


بطرس الناسك يتجول  في أوربا لتحميس الناس

ثالثًا : قام البابا بتكليف أحد رهبان إميان ، و يُدعى بطرس الناسك ، بالقيام بجولات مكثفة في أوربا لتحميس الناس ، وجمع المقاتلين لغزو فلسطين ، وكان بطرس الناسك هذا رجلاً موهوبًا في الخطابة ، وكان يلبس الملابس الرَّثَّة ويمشي حافي القدمين ، ويركب حمارًا أعرجَ ، فأخذ القضية بمنتهى الجدية ، وبدأ في التجول في أنحاء فرنسا ، وخاصةً في الشمال الشرقي منها ، وكان له فعل السحر في الناس ، فكانوا يتبعونه بالعشرات والمئات والآلاف ، وإستطاع في غضون شهور قليلة أن يجمع خمسة عشر ألف رجل ، غير نسائهم وأطفالهم ، وكان جُلُّ من انضم إليه من عوام الناس الفقراء ، ومن المجرمين الخارجين على القانون ، كما إنضم إليه عدد قليل من الفرسان وأمراء الإقطاعيات .. وعُرفت المجموعة التي كوَّنها بطرس الناسك بحملة الرعاع أو حملة العامة ؛ لأنها لم تكن لها صبغة الجيش أو الميليشيات ، إنما كانت عبارة عن مجموعات ضخمة من العوام غير المنظمين ..

وكما قام بطرس الناسك بجولته هذه ، قام راهب آخر يدعى والتر ويلقَّب بالمفلس ، وإستطاع هو الآخر أن يجمع عددًا كبيرًا من المتطوعين الراغبين في الذهاب مع الحملة .


القسطنطينية عاصمة الدولة البيزنطية

رابعًا : لم يشأ البابا أن يترك الأمور هكذا مفتوحة دون تحديد حتى لا يطول أمد التجميع والتجهيز ، فحدَّد موعدًا معينًا ومكانًا معينًا لاجتماع الجيوش والفرق من شتى البلدان ؛ فأما الموعد فكان 23 شعبان سنة 489هـ= 15 من أغسطس سنة 1096 - وأما المكان فكان في القسطنطينية عاصمة الدولة البيزنطية ، وكان هذا الموعد متأخرًا ليأخذ الفرصة لجمع الجيوش ، وكذلك لتجميع المحاصيل في أول الربيع ، ثم تتحرك الجيوش مباشرة حيث ستقضي في الطريق ثلاثة أشهر تقريبًا .. وكان المكان المختار للتجمع هو القسطنطينية ؛ لأنها آخر محطة تقريبًا قبل دخول الأراضي الإسلامية في آسيا الصغرى ، حيث كان من المخطط أن يحارب الصليبيون السلاجقة هناك ثم في الشام، وذلك قبل الانتقال إلى الهدف الأخير وهو فلسطين، وخاصةً بيت المقدس , ومن جانب آخر فإنه كان لا بد من لقاء الإمبراطور البيزنطي ألكسيوس كومنين ؛ وذلك لترتيب سبل التعاون معه لتسهيل أمور الحملة الصليبية .

خامسًا : قام البابا بعدة مراسلات مع ملوك وأمراء أوربا ليحثهم على الخروج معه في الحملة ، ولم يحقق في هذا المجال نجاحًا يُذكر مع الملوك ، ولكن حقق نجاحًا كبيرًا مع الأمراء ، وعلى رأس هؤلاء الأمراء ريمون الرابع كونت تولوز وبروفانس ، وهو من الأمراء الكبار الذي كان مهتمًّا جدًّا بحرب المسلمين ، حيث حاربهم قبل ذلك في الأندلس، كما ذهب أيضًا للحج في بيت المقدس ؛ وكان يرى في نفسه الكفاءة لقيادة الجيوش بكاملها ، واستغل البابا حماسته هذه وعقد معه عدة اجتماعات ، بل صحبه في مجمع نيم في يوليو 1096م ؛ وذلك لتحميس أكبر عدد من الناس للمشاركة في الحملة .

الأمير ريمون دي سان جيل الرابع كونت تولوز

وغير ريمون الرابع فقد إستجاب عدد آخر من الأمراء ، وسيأتي تفصيل ذكرهم عند الحديث عن تقسيم الجيوش الصليبية إلى مجموعات قبل الخروج .

ميناء جنوة

سادسًا : لم يكتف البابا بمراسلة الملوك والأمراء فقط ، بل راسل أيضًا العسكريين والاقتصاديين في ميناء جنوة الإيطالي للمساعدة بأسطول بحري يسهِّل مهمة الحملة الصليبية ، وقد استجاب الجنويون لنداء البابا ، وأعدوا اثنتي عشرة سفينة بحرية، وناقلة كبيرة للجنود ، وذلك في مقابل امتيازات كبيرة في بلاد الشام عند احتلالها .

سابعًا : لم يقتصر البابا على المراسلات المكثفة التي أرسلها لكل رءوس الدول والإمارات، إنما أخذ يتجول بنفسه في مدن كثيرة وقرى عديدة ، داعيًا لنفس المهمة ، فعقد مجمعًا في ليموج Limoges في ديسمبر 1095 بعد المؤتمر الأول بأقل من شهر ، ثم في عام 1096 قام بعدَّة جولات في أنجرز ومان وتورز وبواتييه وبوردو وتولوز ونيم ، وهذا كان في الفترة من يناير إلى يوليو 1096 ..

وقد أسفرت هذه الجهود عن تجميع عدد كبير من الجنود جُلُّهم من فرنسا ، وإن كان هناك جنود جاءوا كذلك من إيطاليا وإنجلترا وإسبانيا ، بل ومن بعض البلاد البعيدة مثل إسكتلندا والدنمارك ..

ثامنًا : هدَّد البابا بأن كل من يقرِّر المشاركة ويحمل شارة الصليب ثم يتخلف عن الخروج فإنه سيعاقب بعقوبة الحرمان ؛ وقد فعل ذلك لكي يتجنب خطورة الحماسة الطارئة التي ما تلبث أن تفتر ، فيجد أن الأعداد الكبيرة لم تصبر معه على الخروج مما ينذر بخطر كبير .. وهو بذلك التهديد قد ضمن أن كل من عرض الخروج سيخرج ؛ وبذلك يستطيع أن يبني حساباته على أرقام صحيحة .

لقد كان جهدًا كبيرًا ومنظمًا بذل فيه الكثير من الوقت والفكر والمال ، وجمعت فيه جهود أوربا الغربية في قضية واحدة ، وهذا لم يحدث منذ عدة قرون ، ومنذ سقوط الإمبراطورية الرومانية القديمة , بعد ذلك الاستعراض لخلفية أوربا التاريخية ، ولخلفية البابا الفكرية وللجهود التي بذلت ، وللجموع التي إستجابت للدعوة نستطيع أن ندرك البواعث الحقيقية لهذه الحملة الصليبية .

إن كثيرًا من المؤرخين يجعل الباعث وراء الحملة الصليبية سببًا معينًا واحدًا أو رئيسيًّا ، وينكر ما دونه من أسباب ودوافع ، وهذا ينافي الواقع الذي رأيناه ، وينافي خروج هذا الشتات من الناس ، حيث يمثِّلون عدة طبقات من المجتمع الأوربي ، وعدة بلاد مختلفة ، وعدة أمراء وزعماء ، وعدة لغات ولهجات ، وعدة مستويات إجتماعية .

إن هذا التنوع العجيب يثبت - بما لا يدع مجالاً للشك - أنه ليس هناك دافع واحد جمع كل هذا الشتات، إنما كانت الدوافع مختلفة، والبواعث متعددة ، وأفلح البابا أوربان الثاني في الضرب على كل وتر ؛ حتى يقنع الجميع بالخروج في رحلة واحدة وهدف واحد .