الفصل السادس: بني صهيون
أولا: صفات اليهود في القرآن
الكريم والسنة النبوية المطهرة.
(14) الكفر بنعم الله تعالى.
إن القارئ لآيات
القرآن الكريم يرى بوضوح الآيات التي تتحدث باستفاضة
عن ألوان النعم التي أغدقها الله تعالى على هؤلاء اليهود ، وبدلا من أن
يشكروا لله جل وعلا تلك النعم، ويعترفوا بفضله عليهم، نجدهم فعلوا العكس الذي يليق
بطبيعتهم السيئة، ونفسهم الدنيئة، حيث نجدهم قد جحدوا تلك النعم، وأعرضوا عن شكرها،
بل زادت جُرأتهم فوقعوا في المعاصي.
فعن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم:" إن بني إسرائيل لما عملوا بالمعاصي نهاهم قراؤهم
وعلماؤهم عما كانوا يعملون، فعصوهم فخالطوهم في معايشهم، فضرب قلوب بعضهم على بعض
ثم لعنهم على لسان داود وعيسى بن مريم"، ثم جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم
وكان متكئاً، ثم قال:" كلا والذي نفسي بيده حتى تأطروهم(1)
على الحق أطراً"(2).
(1)
تأطروهم: تحبسوهم على قبول الحق، القاموس، 1/686، المعجم الوسيط، 1/20.
النهاية 1/56.
(2) الجامع الصحيح، الترمذي، مرجع سابق، 48- كتاب التفسير،
6- باب من سورة المائدة، 5/235، )3047-3048).
وقال عنه حسن غريب. وانظر عون المعبود شرح سنن أبي داود، مرجع سابق، كتاب الملاحم،
17- باب الأمر والنهي، 11/327، )4326-4327).
وانظر سنن ابن ماجة، مرجع سابق، 36- كتاب الفتن، 2- باب الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر، 4/360، )4006).
وانظر مسند الإمام أحمد )الموسوعة
ا لحديثة)، 6/250، )3713)
وقال عنه المحقق ضعيف لانقطاعه لأن عبد الله بن مسعود لم يسمع من أبيه، وانظر
المعجم الكبير الطبراني، 10/145-146)
10264-10268) وقال عنه منقطع
والآ ن تعالوا بنا نبدأ بآيات سورة البقرة، حيث يذكرهم الله تعالى
بتعدد نعمه عليهم، ثم يطالبهم بالإيمان، فقال تعالى
{يَٰبَنِي إِسْرَائِيلَ
ٱذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ ٱلَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ
بِعَهْدِيۤ أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّٰيَ فَٱرْهَبُونِ } * { وَآمِنُواْ بِمَآ
أَنزَلْتُ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ وَلاَ تَكُونُوۤاْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَٰتِي
ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّٰيَ فَٱتَّقُونِ }
(3) البقرة: 40- 41
يقول تعالى آمراً بني إسرائيل
بالدخول في الإسلام، ومتابعة محمد عليه من الله أفضل الصلاة والسلام،
ومهيجاً لهم بذكر أبيهم إسرائيل، وهو نبي الله يعقوب عليه السلام، وتقديره: يا
بني العبد الصالح المطيع لله، كونوا مثل أبيكم في متابعة الحق؛
كما تقول: يابن الكريم افعل كذا، يابن الشجاع بارز الأبطال، يابن العالم اطلب
العلم، ونحو ذلك. ومن ذلك أيضاً قوله تعالى{ ذُرِّيَّةَ
مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا } (4)الإسراء: 3
فإسرائيل هو
يعقوب بدليل ما رواه أبو داود الطيالسي: حدثنا عبد الحميد بن بهرام عن شهر بن حوشب،
قال: حدثني عبد الله بن عباس قال: حضرت عصابة من اليهود نبي الله صلى الله
عليه وسلم فقال لهم: " هل
تعلمون أن إسرائيل يعقوب؟ " قالوا:
اللهم نعم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " اللهم
اشهد "(5) تفسير القرآن الكريم/ ابن كثير
والمراد بالنعمة في الآية جنس النعم عامة، وليست نعمة خاصة، كما قال
تعالى ( وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ) أي: النعم المتعددة عليكم، ومن النعم
التي أنعم بها الله سبحانه وتعالى على بني إسرائيل:
(أ) نعمة التفضيل على
الناس
كما في قوله تعالى{ يَٰبَنِي إِسْرَائِيلَ ٱذْكُرُواْ نِعْمَتِي
ٱلَّتِيۤ أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى ٱلْعَٰلَمِينَ } (6) البقرة : 47
يذكرهم تعالى بسالف نعمه
إلى آبائهم وأسلافهم، وما كان فضلهم به من إرسال الرسل منهم، وإنزال الكتب عليهم
وعلى سائر الأمم من أهل زمانهم، كما قال تعالى: { وَلَقَدِ
ٱخْتَرْنَـٰهُمْ عَلَىٰ عِلْمٍ عَلَى ٱلْعَـٰلَمِينَ}(7)الدخان: 32 وقال تعالى:
{وَإِذْ قَالَ
مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَـٰقَوْمِ ٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ
إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَآءَ وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً وَءَاتَـٰكُمْ
مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِّن ٱلْعَـٰلَمِينَ}
(8) المائدة: 20
(8) المائدة: 20
قال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله تعالى: {وَأَنِّى فَضَّلْتُكُمْ عَلَى ٱلْعَـٰلَمِينَ
} قال: بما أعطوا من الملك والرسل
والكتب على عالم من كان في ذلك الزمان، فإن لكل زمان عالماً.
وروي عن مجاهد
والربيع بن أنس وقتادة وإسماعيل بن أبي خالد نحو ذلك، ويجب الحمل على هذا؛ لأن
هذه الأمة أفضل منهم؛ لقوله تعالى، خطاباً لهذه الأمة:
{كُنتُمْ خَيْرَ
أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ
عَنِ ٱلْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَلَوْ ءَامَنَ أَهْلُ ٱلْكِتَـٰبِ
لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ} (9) آل عمران: 110
وفي المسانيد والسنن عن
معاوية بن حيدة القشيري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أنتم توفون سبعين أمة، أنتم خيرها
وأكرمها على الله "، والأحاديث في هذا كثيرة تُذكر عند قوله
تعالى:{ كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ
لِلنَّاسِ} آل عمران: 110
وقيل: المراد تفضيل بنوع ما
من الفضل على سائر الناس، ولا يلزم
تفضيلهم مطلقاً، حكاه الرازي، وفيه نظر، وقيل: إنهم فضلوا على سائر الأمم؛ لاشتمال
أمتهم على الأنبياء منهم، حكاه القرطبي في تفسيره، وفيه نظر،
لأن العالمين عام يشمل من قبلهم ومن بعدهم من الأنبياء، فإبراهيم الخليل قبلهم،
وهو أفضل من سائر أنبيائهم، ومحمد بعدهم، وهو أفضل من جميع الخلق، وسيد
ولد آدم في الدنيا والآخرة، صلوات الله وسلامه عليه.(10) تفسير القرآن الكريم/ ابن كثير
قوله سبحانه: { وَلَقَدِ
ٱخْتَرْنَاهُمْ عَلَىٰ عِلْمٍ عَلَى ٱلْعَالَمِينَ }
(11) الدخان:
32،
أي: عالمي زمانهم، فإن أمة محمد
صلى الله عليه وسلم لم تكن موجودة حينئذ
فهنا يُذكر سبحانه اليهود بما حباهم به من نعمة، من أنه سبحانه
بعث فيهم عددا كبيرا من الأنبياء،
كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما
هلك نبي خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي... " (12) رواه مسلم في الإمارة ( 1842 ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه
والسياسة هي القيام
على الشيء بما يصلحه ، فكان يتولى أمورهم الأنبياء ، كما تفعل الأمراء
والولاة بالرعية اليوم ، فيا لها من نعمة كبرى ، ومنة عظمى ، فهل شكروا تلك
النعمة حق شكرها ؟!
اليهود في مصر
(ب) النجاة من الأعداء:
ذكرهم الله
بها في آيات من كتابه ، قال تعالى{ وَإِذْ نَجَّيْنَٰكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ
يَسُومُونَكُمْ سُوۤءَ ٱلْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ
أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ وَفِي ذَٰلِكُمْ بَلاۤءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ} (13) البقرة : 49.
وتكرر التذكير في سورة
الأعراف وإبراهيم وطه وغيرها وهذه الآية من سورة البقرة، معطوفة على
قوله ( اذكروا نعمتي )
{ وَإِذْ
نَجَّيْنَـٰكُم مّنْ ءالِ فِرْعَوْنَ } تفصيل لما أجمله في قوله{ ٱذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ ٱلَّتِى أَنْعَمْتُ
عَلَيْكُمْ }البقرة:
47 وعطف
على { نِعْمَتِيَ } عطف { جبريل } و { ميكائيل } على { ٱلْمَلَـٰئِكَةَ
}، وقرىء «أنجيتكم». وأصل { ءالَ } أهل لأن تصغيره أهيل، وخص
بالإضافة إلى أولي الخطر كالأنبياء والملوك. و { فِرْعَوْنُ } لقب لمن ملك العمالقة
ككسرى وقيصر لملكي الفرس والروم. ولعتوهم اشتق منه تفرعن الرجل
إذا عتا وتجبر، وكان فرعون موسى، مصعب بن ريان، وقيل ابنه وليد من بقايا عاد.
وفرعون يوسف عليه السلام، ريان وكان بينهما أكثر من أربعمائة سنة.
{يَسُومُونَكُمْ } يبغونكم، من سامه خسفاً إذا أولاه ظلماً، وأصل
السوم الذهاب في طلب الشيء.
{ سُوء
ٱلْعَذَابِ } أفظعه فإنه قبيح بالإضافة إلى سائره، والسوء مصدر ساء يسوء ونصبه على
المفعول ليسومونكم، والجملة حال من الضمير في نجيناكم، أو من { آل
فِرْعَوْنَ }، أو منهما جميعاً لأن فيها ضمير كل واحد منهما.
{يُذَبّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ } بيان
ليسومونكم ولذلك
لم يعطف، وقرىء { يَذْبَحُونَ } بالتخفيف. وإنما فعلوا بهم ذلك لأن فرعون رأى في المنام،
أو قال له الكهنة: سيولد منهم من يذهب بملكه، فلم يرد اجتهادهم
من قدر الله شيئاً
{وَفِي
ذٰلِكُمْ بَلاء } محنة، إن أشير بذلكم إلى صنيعهم، ونعمة إن أشير به إلى الإنجاء،
وأصله الاختبار لكن لما كان اختبار الله تعالى عباده تارة بالمحنة وتارة
بالمنحة أطلق عليهما، ويجوز أن يشار بذلكم إلى الجملة ويراد به الامتحان
الشائع بينهما
{ مّن
رَّبّكُمْ } بتسليطهم عليكم، أو ببعث موسى عليه السلام وتوفيقه لتخليصكم، أو
بهما. { عظِيمٌ } صفة بلاء. وفي الآية تنبيه على أن ما يصيب العبد من خير
أو شر إخبار من الله تعالى، فعليه أن يشكر على مساره ويصبر على مضاره
ليكون من خير المختبرين(14)
تفسير أنوار التنزيل وأسرار التأويل/
البيضاوي
والمعنى: اذكروا
يا بني إسرائيل وقت أن نجيناكم من آل فرعون، الذين كانوا يعذبونكم أشد العذاب،
يذبحون الذكور منكم، ويبقون الإناث، ويذلونكم ويكلفونكم
مالا تطيقون من الأعمال، وفي النجاة من ذلك العذاب، والخلاص من ذلك العدو الكافر،
ومن الإذلال والتسلط نعمة عظيمة
قال العلماء: وفي ذبح الذكور يؤدي إلى الكثير من أنواع الضرر منها:
· ذبح الأبناء يقتضي فناء الرجال، وذلك يقتضي انقطاع النسل.
· هلاك الرجال يقتضي فساد مصالح النساء في أمر المعاش، لحاجتها للرجل.
· أن قتل الولد بعد الحمل الطويل والتعب، من أعظم العذاب والنكد.
(ج)
نعمة فرق البحر وإغراق عدوهم
في قوله تعالى{ وَإِذْ
فَرَقْنَا بِكُمُ ٱلْبَحْرَ فَأَنجَيْنَٰكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ
وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ} ( 15) البقرة: 50
معناه: وبعد أن أنقذناكم من آل فرعون، وخرجتم
مع موسى عليه السلام، خرج فرعون في طلبكم، ففرقنا بكم البحر؛ كما أخبر تعالى عن
ذلك مفصلاً كما سيأتي في مواضعه، ومن أبسطها ما في سورة الشعراء
إن شاء الله. { فَأَنجَيْنَـٰكُمْ }
أي: خلصناكم منهم، وحجزنا بينكم وبينهم،
وأغرقناهم وأنتم تنظرون، ليكون ذلك أشفى لصدوركم، وأبلغ في إهانة عدوكم.
قال عبد الرزاق: أنبأنا معمر
عن أبي إسحاق الهمداني عن عمرو بن
ميمون الأودي في قوله تعالى: { وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ ٱلْبَحْرَ} إلى قوله - {
وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ }، قال: لما خرج موسى ببني إسرائيل، بلغ ذلك فرعون،
فقال: لا تتبعوهم حتى تصيح الديكة، قال: فوالله ما صاح ليلتئذ
ديك حتى أصبحوا، فدعا بشاة فذبحت، ثم قال: لا أفرغ من كبدها حتى يجتمع إليّ ستمائة
ألف من القبط، فلم يفرغ من كبدها حتى اجتمع إليه ستمائة ألف
من القبط، فلما أتى موسى البحر، قال له رجل من أصحابه يقال له يوشع بن نون: أين أمر
ربك؟ قال: أمامك، يشير إلى البحر، فأقحم يوشع فرسه في البحر حتى بلغ الغمر،
فذهب به الغمر، ثم رجع فقال: أين أمر ربك يا موسى؟ فوالله ما كذبت ولا
كذبت، فعل ذلك ثلاث مرات، ثم أوحى الله إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر، فضربه فانفلق،
فكان كل فرق كالطود العظيم
يقول: مثل الجبل، ثم سار موسى
ومن معه، واتبعهم فرعون في طريقهم، حتى إذا تتاموا فيه، أطبقه الله عليهم، فلذلك
قال: { وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ}
وكذلك قال غير
واحد من السلف كما سيأتي بيانه في موضعه، وقد ورد أن هذا اليوم
كان يوم عاشوراء، كما قال الإمام أحمد: حدثنا عفان حدثنا عبد الوارث حدثنا أيوب عن
عبد الله بن سعيد بن جبير عن أبيه عن ابن عباس، قال: قدم رسول
الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فرأى اليهود يصومون يوم عاشوراء، فقال:
" ما هذا اليوم الذي تصومون؟ " قالوا: هذا يوم صالح، هذا
يوم نجى الله عز وجل فيه بني إسرائيل من عدوهم، فصامه موسى عليه السلام، فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: " أنا أحق بموسى منكم " فصامه رسول الله صلى
الله عليه وسلم وأمر بصومه، وروى هذا الحديث البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه (16) تفسير القرآن الكريم/ ابن
كثير
والمعنى: واذكروا
يا بني إسرائيل من جملة نعمنا عليكم، نعمة فرق البحر بكم، وهي آية عظيمة
ومعجزة باهرة، حين ضربه موسى عليه السلام بعصاه، فأصبح فيه طرقا يابسة
متعددة لكم، فسلكتموها وسرتم فيها هاربين من فرعون وجنده، وتمت لكم النجاة،
وحصل الغرق والهلاك لعدوكم ، فرعون وقومه وجنده، ورائكم وأنتم
ترون ذلك بأم أعينكم، وهو أبلغ في اليقين، وأقر لأعينكم، وألذ
لقلوبكم برؤية هلاك عدوكم، وأرجى لشكر النعمة عليكم
(د)
نعمة التوراة والنبوة:
وذلك في آيات،
منها قوله تعالى { وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى ٱلْكِتَابَ
وَٱلْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } (17) البقرة : 53
{وَإِذْ ءاتَيْنَا مُوسَى
ٱلْكِتَـٰبَ وَٱلْفُرْقَانَ } يعني التوراة الجامع بين كونه كتاباً منزلاً وحجة
تفرق بين الحق والباطل. وقيل أراد بالفرقان معجزاته الفارقة بين المحق
والمبطل في الدعوى، أو بين الكفر والإِيمان. وقيل الشرع الفارق بين الحلال
والحرام، أو النصر الذي فرق بينه وبين عدوه كقوله تعالى:{ يَوْمَ ٱلْفُرْقَانِ}(18) الأنفال:
41 يريد به يوم بدر. لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } لكي تهتدوا
بتدبر الكتاب والتفكر في الآيات (19) أنوار التنزيل وأسرار
التأويل/ البيضاوي
وقال سبحانه {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىٰ وَهَارُونَ
ٱلْفُرْقَانَ وَضِيَآءً وَذِكْراً لَّلْمُتَّقِينَ }
(20) الأ نبياء
: 49
قال مجاهد: يعني: الكتاب.
وقال أبو صالح: التوراة. وقال قتادة: التوراة حلالها وحرامها، وما فرق الله بين
الحق والباطل. وقال ابن زيد: يعني: النصر، وجامع القول في ذلك: أن الكتب
السماوية مشتملة على التفرقة بين الحق والباطل، والهدى والضلال،
والغي والرشاد، والحلال والحرام، وعلى ما يحصل نوراً في القلوب، وهداية وخوفاً
وإنابة وخشية (21)
تفسير القرآن
الكريم/ ابن كثير
فامتن الله
عز وجل علي اليهود بإنزال التوراة الفارقة بين الحق والباطل، والهدى والضلال، وأنها
الضياء الذي يهتدي به المهتدون، وتعرف بها أحكام الدين، ويميز
بها بين الحلال من الحرام.
وقال تعالى { وَلَقَدْ آتَيْنَا
بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحُكْمَ وَٱلنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ
مِّنَ ٱلطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى ٱلْعَالَمينَ } ( 22) الجاثية: 16
يقول تعالى ذكره: { وَلَقَدْ
آتَيْنا } يا محمد { بَنِي إسْرائِيلَ الكِتابَ } يعني التوراة والإنجيل،
والحُكْمَ يعني الفهم بالكتاب، والعلم بالسنن التي لم تنزل في الكتاب، {
وَالنُّبُوَّةَ } يقول: وجعلنا منهم أنبياء ورسُلاً إلى الخلق، { وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ }
يقول: وأطعمناهم من طيبات أرزاقنا، وذلك
ما أطعمهم من المنّ والسلوى { وَفَضَّلْناهُمْ على العالَمِينَ } يقول: وفضلناهم على عالمي أهل زمانهم في
أيام فرعون وعهده في ناحيتهم بمصر والشام (
23) تفسير جامع البيان في تفسير القرآن/ الطبري
23) تفسير جامع البيان في تفسير القرآن/ الطبري
أي: ولقد
أنعمنا على بني إسرائيل بنعم لم تحصل لأحد غيرهم من أهل زمانهم ، فآتيناهم
الكتاب: أي التوراة والإنجيل، والحكم بين الناس، والنبوات المتصلة فيهم،
والتي امتازوا بها بين الخلق، حتى صارت بعد ذلك في ذرية إبراهيم عليه
الصلاة والسلام
(ع)
التوبة بعد الضلال:
ذكرهم الله
تعالى بهذه النعمة بقوله سبحانه { وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَٰقَوْمِ
إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِٱتِّخَاذِكُمُ
ٱلْعِجْلَ فَتُوبُوۤاْ إِلَىٰ بَارِئِكُمْ فَٱقْتُلُوۤاْ أَنفُسَكُمْ
ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ
إِنَّهُ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ } (24) البقرة: 54
أي: واذكروا
يا بني إسرائيل لتعتبروا وتتعظوا، إذ ظلمتم أنفسكم بشرككم بعبادتكم العجل ؟! فدلكم ربكم على ما
تتخلصون به من هذا الذنب العظيم، وتكفروا
عن خطئكم الجسيم ، بأن تتوبوا إلى ربكم وتقتلوا أنفسكم، حتى يقبل الله توبتكم،
ففعلتم ذلك فقبل الله منكم، وهو التواب الرحيم الذي يقبل التوبة
من عباده ويعفو عن السيئات
(ص)
البعث بعد الموت:
وقد ذكرهم
بهذه النعمة الجليلة، بعد الآيات السابقة، في قوله تعالى {وَإِذْ قُلْتُمْ يَٰمُوسَىٰ لَن نُّؤْمِنَ
لَكَ حَتَّىٰ نَرَى ٱللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ ٱلصَّٰعِقَةُ وَأَنْتُمْ
تَنظُرُونَ } * { ثُمَّ
بَعَثْنَٰكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } (25) البقرة: 55 - 56
يقول تعالى: واذكروا نعمتي
عليكم في بعثي لكم بعد الصعق إذ سألتم رؤيتي جهرة عياناً مما لا يستطاع لكم ولا
لأمثالكم، كما قال ابن جريج: قال ابن عباس في هذه الآية: { وَإِذْ
قُلْتُمْ يَـٰمُوسَىٰ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ نَرَى ٱللَّهَ جَهْرَةً }
قال: علانية، وكذا قال إبراهيم بن طهمان عن عباد بن إسحاق عن أبي الحويرث عن
ابن عباس، أنه قال في قول الله تعالى: { لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ نَرَى
ٱللَّهَ جَهْرَةً } أي: علانية، أي: حتى نرى الله.
وقال قتادة والربيع
بن أنس: { حَتَّىٰ نَرَى ٱللَّهَ جَهْرَةً } أي: عياناً، وقال
أبو جعفر عن الربيع بن أنس: هم السبعون الذين اختارهم موسى، فساروا معه، قال:
فسمعوا كلاماً، فقالوا: { لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ نَرَى ٱللَّهَ جَهْرَةً } قال:
فسمعوا صوتاً، فصعقوا، يقول: ماتوا.
وقال مروان بن الحكم، فيما
خطب به على منبر مكة: الصاعقة صيحة من السماء، وقال السدي في قوله: {
فَأَخَذَتْكُمُ ٱلصَّـٰعِقَةُ } الصاعقة: نار، وقال عروة بن رويم في قوله: {
وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ } قال: صعق بعضهم، وبعض ينظرون، ثم بعث هؤلاء، وصعق
هؤلاء، وقال السدي: { فَأَخَذَتْكُمُ ٱلصَّـٰعِقَةُ } فماتوا، فقام موسى يبكي
ويدعو الله، ويقول: رب ماذا أقول لبني إسرائيل إذا أتيتهم وقد أهلكت
خيارهم؟
{ لَوْ
شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّـٰىَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ
ٱلسُّفَهَآءُ مِنَّآ }
[الأعراف: 155 فأوحى الله إلى موسى أن هؤلاء السبعين ممن اتخذوا العجل، ثم إن الله أحياهم، فقاموا وعاشوا، رجل رجل، ينظر بعضهم إلى بعض كيف يحيون؟ قال: فذلك قوله تعالى: { ثُمَّ بَعَثْنَـٰكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } وقال الربيع بن أنس: كان موتهم عقوبة لهم، فبعثوا من بعد الموت ليستوفوا آجالهم، وكذا قال قتادة(26) تفسير القرآن الكريم/ ابن كثير
[الأعراف: 155 فأوحى الله إلى موسى أن هؤلاء السبعين ممن اتخذوا العجل، ثم إن الله أحياهم، فقاموا وعاشوا، رجل رجل، ينظر بعضهم إلى بعض كيف يحيون؟ قال: فذلك قوله تعالى: { ثُمَّ بَعَثْنَـٰكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } وقال الربيع بن أنس: كان موتهم عقوبة لهم، فبعثوا من بعد الموت ليستوفوا آجالهم، وكذا قال قتادة(26) تفسير القرآن الكريم/ ابن كثير
(م) الغمام والمن والسلوى:
عطف الله
تعالى على النعم السابقة، نعم أخرى، وهما تظليلهم بالغمام وإنزال المن والسلوى،
قال الله تعالى { وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ ٱلْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا
عَلَيْكُمُ ٱلْمَنَّ وَٱلسَّلْوَىٰ كُلُواْ
مِن طَيِّبَٰتِ مَا رَزَقْنَٱكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَـٰكِن كَانُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُون}َ (27) البقرة: 57
الغمام هو السحاب، وقيل: السحاب الأبيض. والمن : هو مادة صمغية تسقط على الشجر تشبه
العسل . والسلوى: طائر بري لذيذ الطعم ويسمى
بالسماني، يأتيهم كل مساء فيمسكونه بأيديهم دون تعب.
اعلم أن هذا هو الإنعام
السابع الذي ذكره الله تعالى وقد ذكر الله تعالى هذه الآية بهذه الألفاظ في
سورة الأعراف، وظاهر هذه الآية يدل على أن هذا الإظلال كان بعد أن بعثهم لأنه
تعالى قال: { ثُمَّ بَعَثْنَـٰكُم مّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ
تَشْكُرُونَ وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ ٱلْغَمَامَ } بعضه معطوف على بعض وإن
كان لا يمتنع خلاف ذلك، لأن الغرض تعريف النعم التي خصهم الله تعالى بها.
قال المفسرون،
{ وَظَلَّلْنَا } وجعلنا الغمام تظلكم، وذلك في التيه سخر الله لهم السحاب
يسير بسيرهم يظلهم من الشمس وينزل عليهم المن وهو الترنجبين مثل الثلج من طلوع
الفجر إلى طلوع الشمس لكل إنسان صاع ويبعث الله إليهم السلوى
وهي السماني فيذبح الرجل منها ما يكفيه { كُلُواْ } على إرادة القول: { وَمَا
ظَلَمُونَا } يعني فظلموا بأن كفروا هذه النعم أو بأن أخذوا أزيد مما أطلق
لهم في أخذه أو بأن سألوا غير ذلك الجنس وما ظلمونا فاختصر الكلام بحذفه
لدلالة { وَمَا ظَلَمُونَا } عليه (28) تفسير مفاتيح الغيب، التفسير الكبير/ الرازي
(ن)
التمكين من دخول بيت المقدس:
ومن النعم
التي ذكرهم الله تعالى بها، فما قاموا بشكرها، ولا أحسنوا قبولها، وهي دخولهم بيت
المقدس ، والراحة من التيه في الصحراء، والخلاص من العناء، في
قوله تعالى { وَإِذْ قُلْنَا
ٱدْخُلُواْ هَـٰذِهِ ٱلْقَرْيَةَ فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَٱدْخُلُواْ ٱلْبَابَ
سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّةٌ نَّغْفِرْ
لَكُمْ خَطَٰيَٰكُمْ وَسَنَزِيدُ ٱلْمُحْسِنِينَ } * { فَبَدَّلَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ ٱلَّذِي
قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى
ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزاً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ }
(29) البقرة:
58 - 59
فهذا أيضا من نعمته تعالى عليهم،
بعد معصيتهم إياه فيما مضى، فأمرهم بدخول القرية لتكون لهم سكنا ووطنا،
ويحصل لهم بها العيش الرغيد، وهي بيت المقدس على الصحيح من أقوال العلماء والمفسرين،
وأن يكون دخولهم مع الخضوع لله والتذلل له، ( سجدا
) أي: راكعين وشاكرين على ما أنعم عليهم من الفتح والنصر، ورد بلدهم إليهم ،
وإنقاذهم من التيه، وأن يقولوا: ( حطة )، أي: يقولوا اللهم حط عنا خطايانا،
ووعدهم المغفرة والرحمة والزيادة في الفضل والخير
وقد كان
النبي عليه الصلاة والسلام يظهر الخضوع والتذلل لله تعالى عند النصر والظفر بالأعداء،
فعندما تم له فتح مكة، دخل إليها على ناقته وهو كذلك، خاشعا
خاضعا صلى الله عليه وسلم لربه، حتى إن رأسه الشريف يكاد يمس عنق ناقته، شكرا
لله تعالى على نعمة الفتح، وبعد دخوله مكة اغتسل وصلى ثمان ركعات من الضحى،
وسماها بعض أهل العلم بصلاة الفتح، والحقيقة أنها صلاة الضحى،
وجاء أن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، لما دخل إيوان كسرى فاتحا، صلى بداخله ثمان
ركعات.
ولكن ماذا فعل بنو إسرائيل بعد أن تم لهم الفتح، ودخلوا بيت
المقدس؟!
أنهم لم يفعلوا ما أمروا به، ولم يقولوا ما أمروا به، ولهذا قال تعالى
{فَبَدَّلَ ٱلَّذِينَ
ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ ٱلَّذِي قِيلَ لَهُمْ}
وأخرج الإمام البخاري:
عن أبي هريرة رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه وسلم
أنه قال: " قيل لبني إسرائيل ادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة، فبدلوا ودخلوا يزحفون
على أستاهم، وقالوا: حبة في شعرة"
وقال الحافظ ابن
كثير: أنهم بدلوا أمر الله لهم من الخضوع بالقول والفعل، فأمروا أن يدخلوا الباب سجدا،
فدخلوا يزحفون على أستاهم، رافعي رؤوسهم !! وأمروا أن يقولوا:
حطة، أي: احطط عنا ذنوبنا وخطايانا، فاستهزؤوا وقالوا: حنطة في شعيرة ؟!
وهذا في غاية ما يكون من المخالفة والمعاندة، ولهذا أنزل الله بهم بأسه وعذابه،
بفسقهم وخروجهم .
رموز تمثل الأسباط الإثنا عشرة
عيون موسى
(ه)
تفجير الماء من الحجر:
يتوالى تذكير
الله سبحانه لهم بالنعم الجزيلة ، فيقول الله لهم {وَإِذِ ٱسْتَسْقَىٰ
مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا ٱضْرِب بِّعَصَاكَ ٱلْحَجَرَ فَٱنفَجَرَتْ مِنْهُ ٱثْنَتَا عَشْرَةَ
عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ
كُلُواْ وَٱشْرَبُواْ مِن رِّزْقِ ٱللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي ٱلأَرْضِ مُفْسِدِينَ } (30) البقرة: 60
اعلم أن هذا هو الإنعام
التاسع من الإنعامات المعدودة على بني إسرائيل، وهو جامع لنعم الدنيا والدين،
أما في الدنيا فلأنه تعالى أزال عنهم الحاجة الشديدة إلى الماء
ولولاه لهلكوا في التيه، كما لولا إنزاله المن والسلوى لهلكوا، فقد قال تعالى:
{وَمَا جَعَلْنَـٰهُمْ
جَسَداً لاَّ يَأْكُلُونَ ٱلطَّعَامَ}الأنبياء: 8] وقال: {وَجَعَلْنَا مِنَ ٱلْمَاء
كُلَّ شَىْء حَىّ} الأنبياء:
30
بل الإنعام بالماء في التيه أعظم من الإنعام بالماء المعتاد لأن الإنسان إذا
اشتدت حاجته إلى الماء في المفازة وقد انسدت عليه أبواب الرجاء لكونه في مكان
لا ماء فيه ولا نبات، فإذا رزقه الله الماء من حجر ضرب بالعصا
فانشق واستقى منه علم أن هذه النعمة لا يكاد يعدلها شيء من النعم، وأما كونه من
نعم الدين فلأنه من أظهر الدلائل على وجود الصانع وقدرته وعلمه
ومن أصدق الدلائل على صدق موسى عليه السلام، وههنا مسائل:
المسألة الأولى: جمهور المفسرين أجمعوا على أن هذا الاستسقاء كان في التيه، لأن الله تعالى لما ظلل عليهم الغمام وأنزل عليهم المن والسلوى وجعل ثيابهم بحيث لا تبلى ولا تتسخ خافوا العطش فأعطاهم الله الماء من ذلك الحجر، وأنكر أبو مسلم حمل هذه المعجزة على أيام مسيرهم إلى التيه فقال: بل هو كلام مفرد بذاته، ومعنى الاستسقاء طلب السقيا من المطر على عادة الناس إذا أقحطوا ويكون ما فعله الله من تفجير الحجر بالماء فوق الإجابة بالسقيا وإنزال الغيث والحق أنه ليس في الآية ما يدل على أن الحق هذا أو ذاك وإن كان الأقرب أن ذلك وقع في التيه، ويدل عليه وجهان. أحدهما: أن المعتاد في البلاد الاستغناء عن طلب الماء إلا في النادر، الثاني: ما روي أنهم كانوا يحملون الحجر مع أنفسهم لأنه صار معداً لذلك فكما كان المن والسلوى ينزلان عليهم في كل غداة فكذلك الماء ينفجر لهم في كل وقت وذلك لا يليق إلا بأيامهم في التيه.
المسألة الأولى: جمهور المفسرين أجمعوا على أن هذا الاستسقاء كان في التيه، لأن الله تعالى لما ظلل عليهم الغمام وأنزل عليهم المن والسلوى وجعل ثيابهم بحيث لا تبلى ولا تتسخ خافوا العطش فأعطاهم الله الماء من ذلك الحجر، وأنكر أبو مسلم حمل هذه المعجزة على أيام مسيرهم إلى التيه فقال: بل هو كلام مفرد بذاته، ومعنى الاستسقاء طلب السقيا من المطر على عادة الناس إذا أقحطوا ويكون ما فعله الله من تفجير الحجر بالماء فوق الإجابة بالسقيا وإنزال الغيث والحق أنه ليس في الآية ما يدل على أن الحق هذا أو ذاك وإن كان الأقرب أن ذلك وقع في التيه، ويدل عليه وجهان. أحدهما: أن المعتاد في البلاد الاستغناء عن طلب الماء إلا في النادر، الثاني: ما روي أنهم كانوا يحملون الحجر مع أنفسهم لأنه صار معداً لذلك فكما كان المن والسلوى ينزلان عليهم في كل غداة فكذلك الماء ينفجر لهم في كل وقت وذلك لا يليق إلا بأيامهم في التيه.
المسألة الثانية: اختلفوا في
العصا، فقال الحسن: كانت عصا أخذها من بعض الأشجار، وقيل كانت من
آس الجنة طولها عشرة أذرع على طول موسى ولها شعبتان تتقدان في الظلمة والذي
يدل عليه القرآن أن مقدارها كان مقداراً يصح أن يتوكأ عليها وأن تنقلب حية
عظيمة ولا تكون كذلك إلا ولها قدر من الطول والغلظ وما زاد على ذلك فلا
دلالة عليه.
(31) تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي
"في الجهة اليمنى من الصورة جبل المناجاة وفي الجهة الملاصقة له جبل موسى عليه السلام.
"كهنة قبيلة اللاويين ( قبيلة موسى وهارون) يحملون التابوت في مقدمة أي ترحال.
(و) العفو بعد نقض الميثاق
وقد ذكرهم
الله بهذه النعمة بعد الآيات
السابقة، بقوله سبحانه:
{ وَإِذْ
أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ ٱلطُّورَ خُذُواْ مَآ
ءَاتَيْنَٰكُم بِقُوَّةٍ وَٱذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } * {
ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِّن بَعْدِ ذٰلِكَ فَلَوْلاَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ
وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُم مِّنَ ٱلْخَاسِرِينَ } (32) البقرة: 63 – 64
يقول تعالى مذكراً بني إسرائيل
ما أخد عليهم من العهود والمواثيق بالإيمان به وحده لا شريك له، وإتباع رسله،
وأخبر تعالى أنه لما أخذ عليهم الميثاق، رفع الجبل فوق رؤوسهم؛
ليقروا بما عوهدوا عليه، ويأخذوه بقوة وجزم وامتثال، كما قال تعالى:
{وَإِذ نَتَقْنَا ٱلْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوۤاْ أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُواْ مَآ ءَاتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَٱذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }(33) الأعراف: 171
{وَإِذ نَتَقْنَا ٱلْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوۤاْ أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُواْ مَآ ءَاتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَٱذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }(33) الأعراف: 171
فالطور هو الجبل كما فسره به في الأعراف، ونص على ذلك ابن عباس ومجاهد وعطاء
وعكرمة والحسن والضحاك والربيع بن أنس وغير واحد، وهذا ظاهر، في رواية عن
ابن عباس: الطور: ما أنبت من الجبال، وما لم ينبت فليس بطور، وفي حديث
الفتون عن ابن عباس أنهم لما امتنعوا عن الطاعة رفع عليهم الجبل ليسمعوا. وقال
السدي: فلما أبوا أن يسجدوا أمر الله الجبل أن يقع عليهم، فنظروا إليه
وقد غشيهم، فسقطوا سجداً، فسجدوا على شق، ونظروا بالشق الآخر، فرحمهم الله،
فكشفه عنهم، فقالوا: والله ما سجدة أحب إلى الله من سجدة كشف بها العذاب
عنهم، فهم يسجدون كذلك (34)
تفسير القرآن الكريم/ ابن كثير
السامري
(ي) التوبة بعد الهرب
من قضاء الله :
قال الله تعالى {أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ خَرَجُواْ مِن
دِيَٰرِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ ٱلْمَوْتِ
فَقَالَ لَهُمُ ٱللَّهُ مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَٰهُمْ إِنَّ ٱللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى ٱلنَّاسِ
وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ } (35) البقرة:243.
روي عن ابن عباس أنهم كانوا أربعة
آلاف، وعنه كانوا ثمانية آلاف، وقال أبو صالح: تسعة آلاف، وعن ابن عباس أربعون ألفاً، وقال وهب بن منبه وأبو مالك:
كانوا بضعة وثلاثين ألفاً. وروى
ابن أبي حاتم عن ابن عباس، قال: كانوا أهل قرية يقال لها داوردان.
وكذا قال السدي وأبو صالح، وزاد: من قبل واسط، وقال سعيد بن عبد العزيز: كانوا من أهل أذرعات، وقال ابن جريج عن عطاء
قال: هذا مثل. وقال علي بن عاصم:
كانوا من أهل داوردان قرية على فرسخ من قبل واسط.
وقال وكيع بن الجراح في تفسيره: حدثنا سفيان عن ميسرة بن حبيب
النهدي، عن المنهال بن عمرو الأسدي،
عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ خَرَجُواْ
مِن دِيَـٰرِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ ٱلْمَوْتِ } قال: كانوا أربعة آلاف خرجوا فراراً من الطاعون، قالوا: نأتي
أرضاً ليس بها موت، حتى إذا كانوا
بموضع كذا وكذا قال الله لهم: { مُوتُواْ } فماتوا، فمر عليهم نبي من الأنبياء، فدعا ربه أن يحييهم، فأحياهم، فذلك
قوله عز وجل: { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ
خَرَجُواْ مِن دِيَـٰرِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ ٱلْمَوْتِ
} الآية.
وذكر غير واحد من السلف، أن
هؤلاء القوم، كانوا أهل بلدة في زمان
بني إسرائيل، استوخموا أرضهم، وأصابهم بها وباء شديد، فخرجوا فراراً
من الموت، هاربين إلى البرية، فنزلوا وادياً أفيح، فملؤوا ما بين عدوتيه، فأرسل الله إليهم ملكين، أحدهما من أسفل
الوادي، والآخر من أعلاه، فصاحا بهم صيحة
واحدة، فماتوا عن أخرهم موتة رجل واحد، فحيزوا إلى حظائر، وبني
عليهم جدران وقبور، وفنوا وتمزقوا وتفرقوا، فلما كان بعد دهر، مرّ بهم نبي من أنبياء بني إسرائيل، يقال له: حزقيل، فسأل
الله أن يحييهم على يديه، فأجابه
إلى ذلك، وأمره أن يقول: أيتها العظام البالية إن الله يأمرك أن
تجتمعي، فاجتمع عظام كل جسد بعضها إلى بعض، ثم أمره فنادى: أيتها العظام إن الله يأمرك أن تكتسي لحماً وعصباً وجلداً، فكان
ذلك وهو يشاهد، ثم أمره فنادى: أيتها
الأرواح إن الله يأمرك أن ترجع كل روح إلى الجسد الذي كانت تعمره،
فقاموا أحياءً ينظرون، قد أحياهم الله بعد رقدتهم الطويلة، وهم يقولون: سبحانك لا إله إلا أنت.
وكان في إحيائهم عبرة ودليل
قاطع على وقوع المعاد
الجسماني يوم القيامة، ولهذا قال: { إن الله لذو فضل على الناس }، أي: فيما يريهم
من الآيات الباهرة والحجج القاطعة والدلالات الدامغة { وَلَـٰكِنَّ
أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ } أي: لا يقومون بشكر ما أنعم
الله به عليهم في دينهم ودنياهم. وفي هذه القصة عبرة ودليل، على أنه لن يغني حذر من قدر، وأنه لا ملجأ من الله إلا إليه،
فإن هؤلاء خرجوا فراراً من
الوباء، طلباً لطول الحياة، فعوملوا بنقيض قصدهم، وجاءهم الموت سريعاً في آن واحد(36). تفسير القرآن الكريم/ ابن كثير