الاثنين، 27 أغسطس 2012

(12) خلط ولبس الحق بالباطل أولا: صفات اليهود في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة. الفصل السادس: بني صهيون


الفصل السادس: بني صهيون
أولا: صفات اليهود في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة.
(12) خلط ولبس الحق بالباطل
 قال تعالى عن هذه الخصلة:{ وَلاَ تَلْبِسُواْ ٱلْحَقَّ بِٱلْبَٰطِلِ وَتَكْتُمُواْ ٱلْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (1) البقرة: 42
والآية وردت عطفا على تذكيرهم بنعم الله عليهم في قوله تعالى: {يَٰبَنِي إِسْرَائِيلَ ٱذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ ٱلَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِيۤ أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّٰيَ فَرْهَبُونِ} (2) البقرة:40
ثم  جاء التحذير من الضلال، في قوله تعالى
{وَآمِنُواْ بِمَآ أَنزَلْتُ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ وَلاَ تَكُونُوۤاْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَٰتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّٰيَ فَٱتَّقُونِ } (3)   البقرة: 41)
ثم التحذير من الإضلال، في قوله تعالى:
{ وَلاَ تَلْبِسُواْ ٱلْحَقَّ بِٱلْبَٰطِلِ وَتَكْتُمُواْ ٱلْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}
واللَّبس في اللغة:
 بفتح اللام: هو الخلط، وهو من الفعل ( لَبَسَ ) بفتح الباء،   يقال: لَبَست عليه الأمر ألبسه: إذا خلطت حقه بباطله، وواضحة بمشكله، ومنه قوله تعالى: { وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ } (4) الأنعام: 9.
 ويقال: في الأمر لُبسة، بضم اللام، أي: اشتباه.
واللِّبس: بكسر اللام، من الفعل ( لَبِسَ ) بكسر الباء: هو لبس الثوب ونحوه.
والحق: هو الأمر الثابت؛ من حَقَّ الشيء، إذا ثبت ووجب، وهو ما تعترف به سائر النفوس، بقطع النظر عن شهواتها.
والباطل: ضد الحق، وهو الأمر المضمحل الزائل الضائع.
 جاء في تفسير ابن كثير:
يقول تعالى ناهياً لليهود عما كانوا يتعمدونه من تلبيس الحق بالباطل، وتمويهه به، وكتمانهم الحق، وإظهارهم الباطل: { وَلاَ تَلْبِسُواْ ٱلْحَقَّ بِٱلْبَـٰطِلِ وَتَكْتُمُواْ ٱلْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } فنهاهم عن الشيئين معاً، وأمرهم بإظهار الحق والتصريح به، ولهذا قال الضحاك عن ابن عباس:
ولا تلبسوا الحق بالباطل: لا تخلطوا الحق بالباطل، والصدق بالكذب.
وقال أبو العالية: ولا تلبسوا الحق بالباطل، يقول: ولا تخلطوا الحق بالباطل، وأدوا النصيحة لعباد الله من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ويروى عن سعيد بن جبير والربيع بن أنس نحوه.
وقال قتادة: { وَلاَ تَلْبِسُواْ ٱلْحَقَّ بِٱلْبَـٰطِلِ } ولا تلبسوا اليهودية والنصرانية بالإسلام، وأنتم تعلمون أن دين الله الإسلام، وأن اليهودية والنصراينة بدعة ليست من الله. وروي عن الحسن البصري نحو ذلك، وقال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة، أو سعيد بن جبير عن ابن عباس: { وَتَكْتُمُواْ ٱلْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } أي: لا تكتموا ما عندكم من المعرفة برسولي وبما جاء به، وأنتم تجدونه مكتوباً عندكم فيما تعلمون من الكتب التي بأيديكم. وروي عن أبي العالية نحو ذلك. وقال مجاهد والسدي وقتادة والربيع بن أنس: { وَتَكْتُمُواْ ٱلْحَقَّ } يعني: محمداً صلى الله عليه وسلم   (5) تفسير القرآن الكريم/ ابن كثير
 يقول الإمام ابن القيم - رحمه الله - :
فإن اللبس إنما يقع إذا ضعف العلم بالسبيلين أو أحدهما؛ كما قال عمر بن الخطاب: إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة، إذا نشأ في الإسلام من لم يعرف الجاهلية.
 وهذا من كمال علم عمر رضي الله عنه، فإنه إذا لم يعرف الجاهلية وحكمها، وهو كل ما خالف ما جاء به الرسول  صلى الله عليه وسلم ، فإنه من الجاهلية، فإنها منسوبة إلى الجهل، وكل ما خالف الرسول فهو من الجهل، فمن لم يعرف سبيل المجرمين، ولم تستبن له، أوشك أن يظن في بعض سبيلهم أنها من سبيل المؤمنين ! كما وقع في هذه الأمة من أمور كثيرة، في باب الاعتقاد والعلم والعمل، هي من سبيل المجرمين والكفار وأعداء الرسل، أدخلها من لم يعرف أنها من سبيلهم، في سبيل المؤمنين ؟! ودعا إليها وكفر من خالفها، واستحل منه ما حرمه الله ورسوله ؟! (6) الفوائد  ص109.
جاء في تفسير القرطبي:
قوله تعالى { وَلاَ تَلْبِسُواْ ٱلْحَقَّ بِٱلْبَاطِلِ } اللَّبْس: الخلط. لَبَست عليه الأمر ألبِسه، إذا مزجتَ بيّنه بمُشْكله وحقَّه بباطله، قال الله تعالى:
{ وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ }
[الأنعام:9] وفي الأمر لُبْسة؛ أي ليس بواضح.ومن هذا المعنى قول عليّ رضي الله عنه للحارث ابن حوط:يا حارث إنه ملبوس عليك. إن الحق لا يعرف بالرجال، اعرف الحق تعرف أهله. وقالت الخنساء:
ترى الجليسَ يقول الحقّ تحسَبه       رُشْداً وهيهات فٱنظر ما به التبسا
صَدِّق مقالتَه وٱحذَر عداوته                   وٱلبس عليه أمورا مثلَ ما لَبَسا
وقال العَجّاج:
لما لَبَسْنَ الحقَّ بالتَّجَنِّي                           غَنِين وٱستبدَلْن زيداً منِّي
 روى سعيد عن قتادة في قوله: { وَلاَ تَلْبِسُواْ ٱلْحَقَّ بِٱلْبَاطِلِ }، يقول: لا تلبسوا اليهودية والنصرانية بالإسلام، وقد علمتم أن دين الله ـ الذي لا يقبل غيره ولا يجزي إلا به ـ الإسلامُ، وأن اليهودية والنصرانية بدعة وليست من الله. والظاهر من قول عنترة:
وكَتِيبةٍ لَبّستها بكتيبة
أنه من هذا المعنى؛ ويحتمل أن يكون من اللباس. وقد قيل هذا في معنى الآية؛ أي لا تُغَطّوا. ومنه لبس الثوب؛ يقال: لبِست الثوب ألْبَسه. ولباس الرجل زوجته، وزوجها لباسها. قال الجَعْدِيّ:
إذا ما الضّجيع ثَنَى جِيدَها     تَثَنّتْ عليه فكانت لباسَا
وقال الأخْطل:
وقد لَبِستُ لهذا الأمر أعْصُرَه   حتى تجلّل رأسي الشيبُ فاشتعلا
واللَّبوس: كل ما يُلبس من ثياب ودرع؛ قال الله تعالى:
{ وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ } الأنبياء:80ولابست فلاناً حتى عرفتُ باطنه. وفي فلان مَلْبَس؛ أي مستمتع. قال:
ألاَ إن بعد العُدْم للمرءِ قُنْوَة   وبعد المشيب طولَ عُمْرٍ ومَلْبَسَا
ولِبْس الكعبة والهودج: ما عليهما من لِباس (بكسر اللام).
قوله تعالى: { بِٱلْبَاطِلِ } الباطل في كلام العرب خلاف الحق، ومعناه الزائل. قال لبِيد:
ألاَ كلُّ شيء ما خلا اللَّهَ باطلُ
وبطل الشيء يبطل بُطْلا وبُطولا وبُطلانا (ذهب ضياعاً وخسراً)، وأبطله غيره. ويقال: ذهب دمه بُطْلاً؛ أي هَدَراً. والباطل: الشيطان. والبَطَل: الشجاع، سُمِّيَ بذلك لأنه يُبطل شجاعة صاحبه. قال النابغة:
لهم لواء بأيدي ماجدٍ بطلٍ   لا يقطع الخرق إلا طرفُه سامي
والمرأةُ بَطَلة. وقد بطُل الرجل (بالضم) يبطلُ بُطولة وبَطَالة؛ أي صار شجاعاً. وبَطل الأجير (بالفتح) بِطَاَلة؛ أي تعطّل، فهو بطّال. وٱاختلف أهل التأويل في المراد بقوله: { ٱلْحَقَّ بِٱلْبَاطِلِ }؛ فرُوي عن ٱبن عباس وغيره: لا تخلطوا ما عندكم من الحق في الكتاب بالباطل؛ وهو التغيير والتبديل.

وقال أبو العالية: قالت اليهود: محمد مبعوث ولكن إلى غيرنا. فإقرارهم ببعثه حقّ، وجحدهم أنه بُعث إليهم باطل.
 وقال ٱبن زيد: المراد بالحق التوراة، والباطل ما بدّلوا فيها من ذكر محمد عليه السلام وغيره.
وقال مجاهد: لا تخلطوا اليهودية والنصرانية بالإسلام. وقاله قتادة؛ وقد تقدم.
 قلت: وقول ٱبن عباس أصوب؛ لأنه عام فيدخل فيه جميع الأقوال والله المستعان.
قوله تعالى: { وَتَكْتُمُواْ ٱلْحَقَّ } يجوز أن يكون معطوفاً على «تَلْبِسُوا» فيكون مجزوماً، ويجوز أن يكون منصوباً بإضمار أن، التقدير: لا يكن منك لبس الحق وكتمانه؛ أي وأن تكتموه
 قال ٱبن عباس: يعني كتمانهم أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم وهم يعرفونه. وقال محمد بن سِيرِين: نزل عصابة من ولد هارون يَثْرِبَ لما أصاب بني إسرائيل ما أصابهم من ظهور العدوّ عليهم والذلة، وتلك العصابة هم حملة التوراة يومئذ، فأقاموا بيثرب يرجون أن يخرج محمد صلى الله عليه وسلم بين ظهرانيهم، وهم مؤمنون مصدّقون بنبوته، فمضى أولئك الآباء وهم مؤمنون وخلف الأبناء وأبناء الأبناء فأدركوا محمدًا صلى الله عليه وسلم فكفروا به وهم يعرفونه؛ وهو معنى قوله:
{فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ} (7) البقرة: 89.
قوله تعالى: { وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } جملة في موضع الحال؛ أي أن محمداً عليه السلام حق؛ فكفرهم كان كفر عناد؛ ولم يشهد تعالى لهم بعلم، وإنما نهاهم عن كتمان ما علموا. ودل هذا على تغليظ الذنب على من واقعه على علم وأنه أعصى من الجاهل. وسيأتي بيان هذا عند قوله تعالى:
{أَتَأْمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلْبِرِّ } البقرة:44.    تفسير الجامع لأحكام القرآن/ القرطبي
 فمعنى الآية: ولا تخلطوا أيها الأحبار على الناس  في أمر محمد صلى الله عليه وسلم، وما جاء به من عند ربه من القرآن العظيم، وتزعموا أنه مبعوث إلى العرب دون بقية الأمم، وقد علمتم أنه مبعوث إلى الناس كافة، بما فيهم أنتم، أو تنافقوا في أمره،   فتخلطوا بذلك الصدق بالكذب، والحق بالباطل، وتكتموا ما تجدونه في كتابكم من نعته وصفته، وتعرفون أن من عهدي الذي أخذت عليكم في كتابكم الإيمان به، وبما جاء به والتصديق بذلك.
 فالمراد إذً ا: النهي عن كتم حجج الله، التي أوجب عليهم تبليغها، وأَخَذَ عليهم بيانها.
وقوله تعالى: { وأنتم تعلمون } جملة حالية، وفيها دليل على أن كفرهم كان كفر عناد، لا كفر جهل، وذلك أغلظ للذنب، وأوجب للعقوبة؛ ثم إن التقييد بالعلم في الآية، لا يفيد جواز اللَّبْس والكتمان مع الجهل؛ لأن الجاهل مطالب بالتعلم، ومنهي عن البقاء على جهله، وأن لا يُقْدِم على شيء حتى يعلم حكمه.
وعلى هذا، فلَبْسُ الحق بالباطل ترويجا للباطل، وإظهار له في صورة الحق ! وهذا اللَّبْس والتلبيس هو أول التضليل، وإليه المنتهى في الإضلال؛ فإن أكثر أنواع الضلال الذي أدخل في الإسلام من قبل أهل الأهواء والبدع، هو من قبيل لبس الحق بالباطل، وتاريخ الإسلام خير شاهد على ذلك.
فيجب على المسلم أن يتفادى ما وقع فيه اليهود من الخلط واللبس للدين، والكتمان للحق المبين