الأحد، 22 يناير 2012

الفصل الخامس: موقف الغرب ( المسيحية السياسية ) من الإسلام (2) مختصر عن الحروب الصليبية ثالث عشر: - الطريق إلى بيت المقدس

الفصل الخامس:
موقف الغرب ( المسيحية السياسية )
من الإسلام
(2) مختصر عن الحروب الصليبية
ثالث عشر: - الطريق إلى بيت المقدس
 
في يوم 13 من يناير 1099م (492هـ) تحرَّكت الجيوش الصليبية ناحية الهدف الرئيسي الذي خرجت من أجله وهو احتلال بيت المقدس، وتفاوتت الروايات في تقدير عدد الجيش الصليبي الذي خرج من أنطاكية وما حولها لغزو فلسطين، فالمقلِّل يصل إلى ستة آلاف مقاتل فقط, والمكثِّر يصل به إلى ثمانين ألفًا من الصليبيين، وهو في الحالتين بعيدٌ جدًّا عن الأرقام التي عرَفناها عند نزولهم أرض الإسلام؛ إذ كان الجنود في أقلِّ تقدير ثلاثمائة ألف مقاتل.
وهذا النقص الحادُّ في العدوِّ إنما كان للمعارك المتتالية، وللموت أثناء الانتقال والحصار وفترات الجوع الطويلة، وكذلك لانفصال جيش بلدوين في الرها وبوهيموند في أنطاكية، ولترك حامية صليبية في كل مدينة يحتلونها بدءًا من نيقية وانتهاء بمعرَّة النعمان جنوب أنطاكية؛ غير أنِّي أُرَجِّح أن الجيش كان في حدود ثمانين ألفًا أو نحوها؛ لأن المسافة التي اخترقها الجيش داخل أراضي سوريا ولبنان وفلسطين كبيرة يصعب فيها أن يتحرَّك ستة آلاف جندي فقط دون حماية، كما أنه لو لم يتبقَّ من الثلاثمائة ألف إلا ستة آلاف فقط لكان قرارهم - دون أدنى شكٍّ - هو الرجوع إلى أوربا والنجاة بالنفس، فضلاً عن أن معظم المعارك التي اشترك فيها الصليبيون كان النصر حليفهم، ولم نسمع عن قتلى بهذه الأعداد الضخمة، سواء في صفِّهم أو في صف المسلمين المهزومين.
الأمير ريمون دي سان جيل الرابع كونت تولوز
تحرَّكت الجيوش بقيادة ريمون الرابع، وهو وإن كان يرتدي ملابس الحُجَّاج ويُعْلِن خدمة الربِّ إلاَّ أنه كان في منتهى الغيظ والحنق لعدم حصوله على إمارة حتى هذه اللحظة كزميليه بلدوين وبوهيموند، وهذا أثَّرَ في قراراته كما سيتَبَيَّن لنا من رحلته للقدس. سار الصليبيون جنوبًا، وهم يقتربون من الساحل أحيانًا، ويتعمَّقون في الداخل أحيانًا أخرى، وكانوا في طريقهم يمرُّون بمدن إسلامية صرفة، ومع ذلك فقد كان ردُّ فعل هذه المدن في منتهى الخزي !
لقد أسرع الحُكَّام والأهالي في هذه المدن بتقديم الهدايا الثمينة والمؤن، بل والأدِلَّة للجيش الصليبي بُغْيَة الحصول على رضاه، وتجنُّب وحشيته، وكانت أخبار مذبحتي أنطاكية ومعرَّة النعمان قد وصلت إلى مكانٍ، ففعلت فعلها في إرهاب الشعوب حتى تفقد كلَّ أمل في المقاومة، ويصبح كلُّ همِّها البحث عن لحظات حياة أطول، ولو كانت هذه اللحظات تعيسة أو مَهِينَة، تمامًا كما فعلت مذبحة دير ياسين التي قام بها اليهود سنة (1367هـ) 1948م لتسهيل مهمَّة احتلال فلسطين، والتاريخ يتكرَّر !!
فمن الأمثلة الشاذَّة التي رأيناها ما حدث من أمير شيزر عندما تعهَّد لريمون ألاَّ يعترض طريق الصليبيين أثناء اختراقهم إقليم شيزر، وأن يُقَدِّم لهم ما يحتاجون إليه من الغذاء والمئُونة ، بل وقدَّم لهم دليلَيْنِ أرشدوا الصليبيين في أثناء عبورهم إقليم العاصي !
حصار قلعة شيزر في القرن التاسع الهجري
وكذلك رأينا أمير حمص جناح الدولة حسين بن ملاعب - الذي كان يقاتل الصليبيين منذ شهور مع كربوغا - يُرسِل وفدًا محمَّلاً بالهدايا الثمينة يخطب ودَّ المحتلين؛ لكي لا يتعرَّضوا لإمارته بسوء..
  مدينة حمص
لقد كانوا يحكمون إمارات غير صالحة للاستقلال أبدًا، فالمساحات صغيرة والشعوب ضعيفة والإمكانيات هزيلة، ولكنهم يَقْنَعُون بها ليحتفظوا بالعرش، ولو كان عرشًا زائفًا لا قيمة له !!
ثم مرَّ الجيش الصليبي على مدينة طرابُلُس اللُّبنانيَّة, وكانت هذه المدينة مقرَّ حُكم أحد العائلات الشيعيَّة، وهي عائلة بني عمَّار، وحاكمها في ذلك الوقت هو فخر الملك أبو عليّ، ومع كونها شيعيَّة إلاَّ أنها كانت منشقَّة عن الدولة العبيدية بمصر، وكانت هذه المدينة تُسيطر على عدَّة مدن وقرى مجاورة مكوِّنة بذلك إمارة واسعة نسبيًّا، تحكم عدَّة مناطق في لُبنان وسوريا.
قرَّر فخر الملك أبو علي بن عمار أن يُهَادن الصليبيين، فرفع أعلامهم على أسوار مدينته دلالة تبعيته لهم، وأقرَّ بدفع جزية لهم، وأرسل إليه ريمون الرابع بعض رسله للتفاوض فدخلوا مدينته ثم عادوا إلى ريمون بالأخبار السعيدة: إن المدينة شديدة الثراء، عظيمة الجمال, وسال لُعاب ريمون الرابع، ونسِيَ قضية القدس، وتجاهل ملابس الحجاج، ووجد في طرابلس الفرصة لتحقيق حلم الإمارة الخاصَّة به !
                   طرابلس في محافظة لبنان الشمالي
فكَّر ريمون ومن معه من القادة أن يضغطوا عسكريًّا على المدينة أو أعمالها لكي يَزيدوا في الجزية المعروضة أو أن يُسقطوا المدينة تمامًا، وهذا - لا شكَّ - أفضل، وتوجَّه ريمون لحصار مدينة تسمى عِرْقَةَ شرق طرابلس وفي ذات الوقت هي مدينة غنية بمياهها وثرواتها الطبيعية، واتجه جودفري وروبرت لحصار مدينة جبلة، وهي مدينة ساحلية سوريَّة جنوب اللاذقيَّة تتبع أيضًا طرابلس، وسرعان ما أعلنت جبلة استسلامها بعد حصار تسعة أيام من 2 إلى 11 مارس 1099م، وأقرَّت بدفع جزية وفيرة من المال والخيول، غير أن عِرْقَةَ صمدت، وكانت مدينة حصينة فشل ريمون في إسقاطها.
                           جودفري
اضطر ريمون أن يستنجد بجودفري وروبرت لإسقاط عِرْقَةَ فجاءا إليه واشتركا معه في الحصار، وهذه الاستغاثة من ريمون رفعت من أسهم جودفري وقلَّلت من أسهمه هو؛ فقد صار الصليبيون ينظرون إلى جودفري على أنه القائد العامُّ وليس ريمون الرابع.
واستمر الحصار حول عِرْقَةَ فترة طويلة، وبدا للصليبيين أنهم سيُكَرِّرُون مأساة أنطاكية، وفي هذه الأثناء وفي 10 من إبريل 1099م وصلت رسالة من الإمبراطور البيزنطي تعرض عليهم أن ينتظروه إلى آخر يونية، وسوف يأتي بجيش كبير للاشتراك معهم في غزو بيت المقدس، وسيتحمَّل تكاليف الحملة كلها، والواضح أن الإمبراطور البيزنطي كان يعمل على كل الجهات، ويتعامل بحرفيَّة عالية جدًّا مع الأمور، ويعرف احتياج الصليبيين إلى المساعدة.
أدمار - المندوب البابوي
اجتمع الصليبيون لمناقشة رأي الإمبراطور، ولا شك أنهم كانوا في أزمة، خاصةً أن أدمار - المندوب البابوي - كان قد مات في أنطاكية بعد سقوطها بعدة أيام، وافتقد الجيش الصليبي الزعامة الرُّوحيَّة المجمِّعة، وصار كقوات التحالف التي لا يربطها رباط وثيق، فقد يقوم الإمبراطور بهذا الرباط، فوق أنه سيتحمل تبعات خطيرة سواء في الأموال أو في الأرواح، فكانت هذه إيجابيات واضحة، لكنها لم تكن بلا سلبيات، فالإمبراطور مخادع، وقد يكون هذا مجرَّد تخدير للجيش الصليبي، وقد تركهم قبل ذلك لمصيرهم في حرب كربوغا مع أنه وعدهم بالقدوم لنُصرتهم، ثم هو يتعامل مع العبيديين الذين كانوا يحكمون بيت المقدس الآن، هذا كله إضافةً إلى أن قدومه سيجعل بيت المقدس حقًّا خالصًا له، وهم - أي الزعماء الصليبيين - يريدونه لهم لا للإمبراطور.
الإمبراطور المعظم ألكسيوس كومنين الأول إمبراطور القسطنطينية
                        ماذا رأى الزعماء الصليبيون ؟!

تزعَّم ريمون الرابع رأيًا يُنادي بانتظار الإمبراطور، وهذا الرأي لم يكن بالطبع لمصلحة الجيوش الصليبيَّة إنما كان لمصلحته هو ، فالانتظار سيعطيه فرصة أكبر لتحقيق حلمه بتكوين إمارة له في طرابلس ، وقد تساعده في ذلك القوات البيزنطية ، وسوف يعلم الإمبراطور البيزنطي القوي أن ريمون الرابع كان مناصرًا له ، وهذا قد يساعده كثيرًا في استقرار أوضاعه ..
الأمير روبرت الثالث أمير نورمانديا
أمَّا جودفري بوايون فقد رأى رأيًا آخر، لقد رأى أن انتظار الإمبراطور تضييعٌ للوقت وللجهد، وبِنَاء لقصور من الرمال، وأنه من الأصلح أن تتوجَّه الجيوش مباشرة إلى بيت المقدس، خاصَّة أن المقاومة الإسلاميَّة منعدمة في هذه المناطق حتى الآن.
وتَنَازَعَ الزعيمان، وظهر التوتُّر بينهما، والقضية لم تكن خالصة للربِّ؛ فريمون له أطماع في طرابلس، وجودفري له أطماع في بيت المقدس، والأطماع متعارضة وإن كان الجيش واحد !

الأمير تانكريد ابن شقيقة الأمير بوهيموند
وقف الزعماء جميعًا مع رأي جودفري بوايون ، وهذا رفع أسهمه أكثر وأكثر، وصار فعليًّا القائد الأعلى للجيوش الصليبيَّة , وعاند ريمون وأصرَّ على استكمال حصار عِرْقَةَ حتى إسقاطها، على الرغم من مرور أكثر من شهرين على حصارها دون فائدة وتأزَّم الموقف ومرَّت الأيام !!
وأخيرًا، وفي (492هـ) 13 من مايو 1099م، وبعد حصار ثلاثة أشهر ونصف، اضطر ريمون لرفع الحصار لفشله في إسقاط المدينة الصغيرة عِرقة، ولا شكَّ أن إسقاط طرابلس ذاتها سيكون أصعب وأصعب، ونزل ريمون على رأي جودفري وبقية الزعماء وقبلوا بجزية فخر الملك بن عمَّار, وأكملوا الطريق إلى بيت المقدس، بعد أن فقدوا وقتًا غاليًا، خاصَّة أن شهور الصيف قد قاربت على البدء، وهكذا بدأ الصليبيون في الاستعداد للرحيل، إلا أنهم فوجئوا بسفارة عبيدية مصرية تأتيهم عند أسوار طرابلس !!

ماذا يُريد العبيديون؟!
      حجاج مسيحيين
لقد جاءت السفارة محمَّلة بالأموال الغزيرة والهدايا الثمينة لكل قائد من قوَّاد الحملة، وبعرضٍ من الدولة العبيدية أن تسهِّل حجَّ الصليبيين وكل النصارى إلى بيت المقدس (المحكوم حتى هذه اللحظة بالدولة العبيدية)، على أن يدخل الحجاج إلى القدس غير مسلَّحين، وسوف تقرُّ الدولة العبيدية الصليبيين على ما تحت أيديهم من بلاد، سواء في آسيا الصغرى أو سوريا أو لبنان.
ولكنَّ الصليبيين فاجئوا السفارة بالردِّ الساخر ، أنهم سيتمكَّنون من أداء الحج كما يريدون ولكن ليس بمساعدة الدولة العبيدية ، وهذا يعني إعلانًا مباشرًا للحرب , إذ كيف سيدخلون البلد دون سماح حُكَّامها ؟!
والحقُّ أن الموقف يحتاج إلى نظرة وتدبُّر ، وعودة للوراء قليلاً لنعرف شيئًا عن الدولة العبيدية، وعن تاريخ بيت لمقدس في هذه الفترة . إن بعض المؤرِّخين - سواء من القدامى أو من المحدثين - يتعجَّبون من ردِّ فعل الدولة العبيدية تجاه الحملة الصليبية، ومن حالة المعاملة الفجَّة التي ظهرت في أقوالهم وأفعالهم، ومن بعض المواقف التي لا تُوصَف بأقل من أنها مخزية ومشينة، ومع ذلك فالذي يُرَاجِع التاريخ يجد أنه لا عجب مطلقًا فيما رأيناه من ردِّ فعلٍ للدولة العبيدية تجاه الحروب الصليبية.
لقد كان من أهداف الدولة العبيدية الرئيسية منذ قامت محاربة المسلمين السُّنَّة في كل مكان، فقد حاربت أهل السُّنَّة في المغرب، وقتلت العلماء والعُبَّاد، وكان ذلك في سنة 296هـ، ثم جعلت من همِّها أن تحارب الدولة السُنِّيَّة في الأندلس، بل وتعاونت مع الصليبيين في شمال الأندلس ضد دولة عبد الرحمن الناصر رحمه الله، ثم اجتاحت شمال إفريقيا، واحتلت مصر سنة 358هـ\ 969م، وفعلت بعلمائها السُّنَّة مثلما فعلت في المغرب، ثم توسَّعت في نفس السنة في الشام، واحتلت بيت المقدس وكذلك دمشق, ودام هذا الاحتلال أكثر من مائة سنة، لقد بقِيَ العبيديون في بيت المقدس حتى حرَّرها ألب أرسلان رحمه الله عن طريق قائده أتسز (الأقسيس)، وذلك في سنة (463هـ) 1071م، ثم دخل بيت المقدس في مُلْكِ تتش بن ألب أرسلان سنة (471هـ) 1079م، وتولَّى الإمارة حينئذ أرتق بن أكسب، ثم ابنه سكمان بن أرتق سنة (485هـ) 1091م تحت ولاية دقاق بن تتش مَلِكِ دمشق..
كيقباد الأول وهو علاءالدين كيقباد بن كيكاوس وهو سلطان سلاجقة الروم
ولكن العبيديين لم يُسَلِّموا بضياع بيت المقدس وفلسطين من أيديهم؛ ولذلك رحبوا بقدوم الصليبيين إلى آسيا الصغرى والشام لكي يشغلوا الأتراك السُّنَّة وينفردوا هم ببيت المقدس وفلسطين ؛ ولذلك فقد استغلَّ العبيديون فرصة انشغال الأتراك في حرب الصليبيين، ووجَّهوا قوتهم لغزو بيت المقدس سنة (490هـ) 1097م ، واستولوا عليه بالفعل , بل ولم يتورَّعوا عن القيام بمفاوضات مع الصليبيين لإقرارهم على الشام في مقابل إقرار الصليبيين لهم على فلسطين كما وضَّحْنَا،إنه تاريخ طويل من الخيانة والعمالة والطعن في ظُهُورِ المسلمين السُّنَّة.
أمَّا الصليبيون فقد أخذوا قرار احتلال فلسطين، وخاصَّةً بيت المقدس، فلا مجال عندهم الآن للتفاوض مع العبيديين، ومن ثَمَّ كان ردُّهم الساخر على سفارتهم . وهكذا ترك الصليبيون طرابلس ووصلوا إلى بيروت فصيدا ثم صور، والمسلمون في كل ذلك يتجنَّبونهم بالهدايا والأموال لكيلا يتعرضوا للإيذاء، ثم اخترقوا لبنان إلى فلسطين، وعبروا نهر الكلب، وهو الحدُّ الفاصل آنذاك بين أملاك السلاجقة وأملاك الدولة العبيدية، فمرُّوا بعكا فقام أميرها العبيديّ بتمويلهم بالطعام والمؤن، ووعد بالدخول في طاعتهم بعد سقوط بيت المقدس !
قلعة عكا
ثم مرَّ الصليبيون بقَيْسَارِيَة ثم أُرْسُوف, ثم غيَّروا طريق الساحل، وشقُّوا البلاد شرقًا إلى الداخل صوب بيت المقدس، واحتلُّوا في طريقهم الرَّمْلَة، وهي مدينة صغيرة، ولكنها تسيطر على الطريق الواصل من بيت المقدس إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، فسيطر عليها الصليبيون ليؤمِّنوا طريقهم بعد ذلك إلى البحر؛ حفاظًا على إمدادات السفن والأساطيل الأوربية، وفي هذه المدينة (الرملة) توقَّف الصليبيون ليعقدوا اجتماعًا مهمًّا لتحديد خطوات الغزو، وكان ذلك في (492هـ) أوائل يونيو 1099م.
لقد بحث الصليبيون في هذا الاجتماع نقطة مهمة تُفَسِّر خطوات مستقبليَّة في الحملات الصليبيَّة، لقد ناقشوا قضيَّة غزو القاهرة وإسقاط مصر !! لقد فهم الصليبيون في ذلك الوقت المتقدِّم أن مفاتيح بيت المقدس موجودة في القاهرة ، ولم يكن هذا فقط لأن العبيديين يُسيطرون على بيت المقدس الآن ؛ فقد إتضح للصليبيين مدى هلعهم من قوَّة الصليبيين، ولكن للبُعْدِ الإستراتيجي المهمِّ لهذا البلد الكبير مصر، والذي يحدُّ فلسطين من جنوبها وغربها ، والذي به طاقة بشريَّة ضخمة ، وإمكانيات اقتصادية عالية ، وشعور فطريّ بالتقارب مع فلسطين ، وخاصَّة فيما يتعلق ببيت المقدس ، وبه المسجد الأقصى ؛ لذلك فكَّر الصليبيون في هذا الاجتماع في قضية غزو مصر غير أنهم وجدوا أن قوتهم غير كافية لهذه الخطوة الجريئة ، خاصة أن عليهم إذا فعلوا ذلك أن يجتازوا حاجزًا صحراويًّا صعبًا وهو صحراء سيناء ، وقد تهلك فيه القوة الصليبية ؛ ولذلك عدلوا عن هذا الرأي ، وقرَّروا التوجُّه مباشرة إلى بيت المقدس ، لكن هذا الاجتماع أظهر فكرة ظلَّت مسيطرة على عقول قادة الحروب الصليبية وخلفائهم ، والتي وُضِعت بعد ذلك موضع التنفيذ في الحملتين الخامسة والسابعة من الحملات الصليبية، حيث تمَّ غزو مصر غزوًا صريحًاً ..
هذه خريطة للإمارات الصليبية بعد الحملة الأولى
                        والسؤال:
أين الجيوش الإسلاميَّة في طول هذه المسافة التي قطعها الجيش الصليبي من أنطاكية إلى بيت المقدس، وهي مسافة تزيد على ستمائة كيلو متر ؟!أليس في هذه المناطق كلها رجل رشيد ؟!

لقد افتقد المسلمون في هذه الآونة لمقوِّمات رئيسية من مقومات قيام الأُمَّة؛ لذلك قَبِلَتْ جموع المسلمين أن تَحُثَّ هذه الأقدام النجسة على طريقها إلى مسرى رسول الله - صلي الله عليه وسلم - وأُولَى القبلتين وثالث الحرمين، وإلى الأرض المباركة، دون أن يتحرَّك لهم ساكن؛ ولذلك حُصِر المسلمون في بيت المقدس !
ما أشبه الليلة بالبارحة ؟!
لقد عانى المسلمون في هذا الوقت من أمراضٍ شتَّى.. لقد عانَوْا من بُعْدٍ عن الدين، وغياب للحميَّة الإسلاميَّة، وافتقاد للنخوة المستندة إلى عقيدة قويَّة صحيحة, وعانوا كذلك من فُرقة مؤلمة، وتشتُّت فاضح، حتى صارت كل مدينة إمارة مستقلة، ودويلة منفصلة، بل ومتصارعة مع جيرانها المسلمين.
وعانوا أيضًا من افتقار لزعامة مخلصة متجرِّدة، تجمع الشتات في كيان واحد، وترغب في رفعة هذه الأمة دون نظر إلى مصالح الذات ورغبات النفس, كما عانى المسلمون فوق ذلك من رؤية واضحة للواقع الذي يعيشونه، وللأخطار المحدقة بهم، وعانوا أيضًا من نقص حادٍّ في الدراية السياسية أو الكفاءة العسكريَّة،لقد كانت الأُمَّة تمرُّ فعلاً بأزمة مركَّبة معقدة !
لكن إن كنا نتعجب من موقف الأمة الإسلامية وتخاذلها، فإن العجب يأخذنا وبشكل أكبر من موقف الصليبيين ! كيف أَمِنُوا على أنفسهم أن يخوضوا كل هذه المسافات في عمق العالم الإسلامي، وهم لا يشعرون بخوفٍ ولا وَجَلٍ ؟! إ يتوغلون في كثافة بشريَّة عالية جدًّا، ومحصورون بين عدة إمارات تحوي عدَّة جيوش مسلمة، والمسافة بينهم وبين أوطانهم بعيدة هائلة، فلو هُزِمُوا سُحِقُوا، وليس لهم مهرب ولا منجى !كيف استطاعوا أن يتغلَّبوا على الخوف الفطريّ للبشر، وقَبِلُوا بهذه المغامرة الخطيرة ؟!

فرسان المعبد الذراع العسكري للنصرانية
إن الإجابة: بأنهم خرجوا من ظروف صعبة جدًّا في أوربا - كما ذكرنا أنفا - جَعَلَت الحياة هناك أقرب إلى الموت ، وجعلت طموحهم في ترك واقعهم الأليم يطغى على أية رغبة أخرى ، وجعلت الموت في أرض فلسطين لا يفترق كثيرًا عن الحياة في أوربا الفقيرة آنذاك , إن هذه الإجابة فقط لا تشفي الغليل ، ولا تفسِّر عدم الرهبة ، وقلَّة الاكتراث الذي رأيناه في الجيوش الصليبية ؛ فالروح عزيزة على النفس ، وخاصَّةً إن لم يكن الإيمان باليوم الآخر والجنة وازعًا قويًّا يدفع إلى الموت .
فما تفسير هذه المعادلة الصعبة ؟!ولماذا بدت الشجاعة في قلوب الصليبيين واضحة جليلة ؟!

إن هذا يفسره لنا حديث رسول الله - صلي الله عليه وسلم - الذي رواه ثوبان ، وبه يفسِّر الأوضاع وكأنه يراها رأي العين ؛ قال رسول الله : "يُوشِكُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ الأُمَمُ مِنْ كُلِّ أُفُقٍ كَمَا تَدَاعَى الأَكَلَةُ عَلَى قَصْعَتِهَا". قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَمِنْ قِلَّةٍ بِنَا يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: "أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنْ تَكُونُونَ غُثَاءً كَغُثَاءِ السَّيْلِ، يَنْتَزِعُ الْمَهَابَةَ مِنْ قُلُوبِ عَدُوِّكُمْ، وَيَجْعَلُ فِي قُلُوبِكُمْ الْوَهْنَ". قَالَ: قُلْنَا: وَمَا الْوَهْنُ؟ قَالَ: "حُبُّ الْحَيَاةِ وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ.
إن الأمم الغربيَّة التي تداعت من فرنسا وإيطاليا وإنجلترا وألمانيا لم تأتِ بهذه القوة والشجاعة إلاَّ لأنَّ الله عز وجل - نزع الرهبة من قلوبها من جموع المسلمين، فصاروا لا يكترثون بهم ولا بأعدادهم وحصونهم وسلاحهم، ورأينا اجتماعات الصليبيين لا تُعَبِّر أبدًا عن خوف في صدورهم، أو عن قلق من مقاومة المسلمين، إنما يتحرَّكون هنا وهناك بحرية تامَّة، وباطمئنان كامل !!
والمسلمون على الجانب الآخر أُلقى في قلوبهم الوَهْن والضعف والخَوَر ، فيرتعبون لرؤية الجنود الصليبيين، ولو كان الصليبيون أقلَّ منهم في العدد، وأضعف منهم في العُدَّة .



ولنا مع الحديث وقفتان، وإن كانت وقفاته كثيرة:
أمَّا الوقفة الأولى: فهي أن الله هو الذي ينزع الرهبة مِنَّا من قلوب أعدائنا، وهو الذي يلقي في قلوبنا الوهن ! وقد يقول قائل: ولماذا يفعل ربنا ذلك، مع أننا في النهاية مؤمنون، وهم كافرون ؟! فنقول: إن الله أَبَى أن يُعِزَّ المسلمين إلا إذا ارتبطوا بالإسلام، والتزموا بالقرآن والسُّنَّة، ولو نَصَرَهُم وهم يُفْرِطون في الشرع لصارت فتنة عظيمة؛ إذ سيقول الناس: إننا لسنا في حاجة للإسلام، فقد نُصِرْنَا بغيره؛ لذلك تحدث مثل هذه المواقف العجيبة ليلتفت المسلمون إلى دينهم، وليضع المسلمون أيديهم على مفاتيح النصر الحقيقيَّة.

أما الوقفة الثانية: فإنها مع السبب الذي من أجله حدثت كل هذه التداعيات المؤلمة، إنَّ وصف الحدث والمأساة أخذ كلمات كثيرة، ولكن السبب وراء كل ذلك لم يأتِ إلاَّ في جُمْلَتين قصيرتين: حُبّ الدنيا، وكراهية الموت.
إن المسلمين تعلَّقوا بالدنيا تعلُّقًا غير مقبول، حتى صاروا يكرهون الموت في سبيل الله، وأُمَّة ترهب الموت لا بُدَّ أن تُقْهَر، وأُمَّة تعشق الدنيا لا بُدَّ أن تذلَّ، والدنيا ملعونة كما ذكر رسولنا(صلى الله عليه وسلم ) والمتمسِّك بها يهلك، ليس هذا فقط بل وتضيع منه الآخرة.

إن هذا السبب يُفَسِّر لنا التخاذل الرهيب الذي رأيناه من جموع المسلمين التي كانت تخرج إلى الصليبيين وهي تحمل الهدايا النفيسة، والأموال الطائلة، لكي يتركونهم "يعيشون"! مجرَّد حياة، أيًّا كانت هذه الحياة، وهذا - والله - هو الهوان بعينه.
هكذا حُصِرَ المسلمون المتمسِّكون بدُنياهم في بيت المقدس، وراقب المسلمون البعيدون عن القدس الموقف في سكون، ينتظرون اليوم الذي ستدور عليهم فيه الدوائر !!


الناصرة - عكا- حيفا- عسقلان- ام الرشراش- الرملة - اللد - الخليل - القدس -
غادر الصليبيون الرملة في (492هـ) 6 من يونيو 1099م، ووصلوا حول أسوار بيت المقدس في (492هـ) 7 من يونيو 1099م. لقد وصلوا إلى المحطَّة الأخيرة في الخُطَّة التي وضعها البابا أوربان الثاني في كليرمون بفرنسا قبل هذا الموقف بأكثر من ثلاث سنوات ونصف.

ويفيض هنا المؤرخون الأوربيون في وصف مشاعر الصليبيين عندما رأوا المدينة المقدسة ! وليس هذا إلاَّ لتجميل الوجه القبيح للغزو الصليبي البشع، فهذه الجموع كثيرًا ما تردَّدت في الوصول إلى هذا المكان؛ لأنهم قَنَعُوا في الطريق بممالك أخرى، وهذه الجموع تنازعت كل أنواع الدنيا من مال وأسلاب وأملاك وزعامة، وهذه الجموع أقسمت الأَيْمان ثم غدرت، وهذه الجموع سترتكب في داخل المدينة المقدسة ما تخجل منه الإنسانية جميعًا !!
بدأ الحصار المحكم حول المدينة في يوم 7 من يونيو 1099م , ولم يُضَيِّع الصليبيون وقتًا، بل أخذوا يقصفون المدينة معتمدين على عدد كبير من آلات الحصار كانوا يصحبونها معهم ولم يمْلِك المسلمون في داخل المدينة إلاَّ محاولة المقاومة اليائسة، والمطاولة قَدْرَ ما يستطيعون .
وصلت جموع الصليبيين فلسطين فاحتلت الرملة، ثم يافا ودمرتها
وفي يوم 15 من يونيو 1099م، وبعد أسبوع من الحصار وصلت إلى ميناء يافا بعض السفن الجنويّة تحمل المؤن والسلاح وبعض الجنود، واستطاعت هذه السفن القليلة أن تُسيطر على ميناء يافا بسهولة؛ لأن السكان هجروا المدينة بعد أن اقترب الصليبيون من أُرْسُوف! وكان لهذه الإمدادات أكبر الأثر في تثبيت أقدام الصليبيين, ومن ثَمَّ ازداد الحصار ضراوة وقوة، ومرَّت الأيام الصعبة، والعالم الإسلامي يُشاهِد الجريمة في صمت، ومرَّ شهر كامل والمدينة محاصَرة، وأصبح الموقف صعبًا على الفريقين؛ إذ بدأت حرارة الصيف تُلهب رءوس الصليبيين، فهذا شهر يوليو بشمسه الملهبة وترامت بعض الأخبار أن العبديين أخرجوا جيشًا من مصر لإنقاذ المدينة المحاصَرة، فأسرع الصليبيون الخطوات لكي يُسقطوا المدينة المقدسة قبل أن يتعرضوا للمشاكل التي عانوا منها في حصار أنطاكية، وصنع الصليبيون بُرجين خشبيين للارتفاع فوق أسوار المدينة، وقد تم صنع هذين البرجين باستخدام خشب الأسقف من المنازل ببيت لحم بعد هدمها، وبدأ الهجوم باستخدام الأبراج، وأحرق المسلمون البرج الأول باستخدام السهام المشتعلة، غير أن الصليبيين استطاعوا الضغط على المدينة باستخدام البرج الثاني، وعبر الجنود الصليبيون فوق الأسوار إلى داخل المدينة, واستطاعوا فتح الأبواب من الداخل، ومن ثَمَّ تدفَّق الصليبيون بغزارة داخل المدينة المقدسة !! وكان ذلك في يوم الجمعة 22 من شعبان سنة 492هـ الموافق 15 من يوليو سنة 1099م، وهو من الأيام المحزنة التي لا تُنْسَى في تاريخ الأُمَّة..
ولم يكن للمسلمين المحاصرين في داخل القدس من هَمٍّ إلاَّ الفِرار من وجه الجنود الصليبيين الذين كانت تبدو عليهم علامات الوحشيَّة والبربريَّة .   عنف الصليبيين ضد أهل بيت المقدس

وهنا تساؤل مهمٌّ:
أين كانت الحامية العسكريَّة العبيديَّة، وقائد المدينة العبيديّ افتخار الدولة؟!

الحامية العبيدية الفاطمية تُرِكَت بيت المقدس بلا جيش
لقد تركوا الشعب وذهبوا إلى محراب داود واعتصموا به ثلاثة أيام، ثم في ظروف غامضة تم إخراجهم بواسطة الصليبيين في أمان تام, حيث نُقلوا إلى عسقلان ومنها إلى مصر دون أن يلحقهم أذى !! مما يؤكِّد أنهم اتفقوا مع الصليبيين على تسليم المدينة مقابل الأمان لهم..وتُرِكَت المدينة بلا جيش !

محراب داود عليه السلام مرقد النبي يحيى عليه السلام
وانطلق الصليبيون الهمج ليستبيحوا المدينة المستسلمة، ولم يجد السكان المذعورون أملاً في النجاة إلا في الاعتصام بالمسجد الأقصى؛ لعل الصليبيين يحترمون قدسيَّة المكان، أو حُرمة دُور العبادة

 المسجد الاقصى
لكن هذه المعاني لا تشغل عقول الصليبيين، لا من قريب ولا من بعيد, وذُبح في المسجد الأقصى سبعون ألف مسلم، ما بين رجل وامرأة وطفل!! وهؤلاء هم كل سكان المدينة تقريبًا، فقد صُفِّيَتْ تمامًا، ولم ينجُ منها إلا الحامية العسكريَّة العبيديَّة..
الكانيباليه كانت من الفظايع اللى مارسها الصليبيين وقت الحروب الصليبيه

  بعد هذه المجزرة قسم الصليبيون المسجد الأقصى أقساماً: قسم أصبح كنيسة وآخر مساكن للفرسان وآخر مستودع للذخائر وآخر إسطبل للخيول.


هذه هي الحملة الدينيَّة التي جاءت من أجل الربِّ، وخدمة للمسيح عليه السلام! وصمة عار حقيقية في جبين أوربا لا تُنْسَى على مرِّ العصور ! لقد ذكر وليم الصوري - وهو أحد مؤرِّخي الحرب الصليبية - أن بيت المقدس شهد عند دخول الصليبيين مذبحة رهيبة، حتى أصبح البلد مَخَاضَة واسعة من دماء المسلمين، أثارت الرعب والاشمئزاز,
بل وذكر مؤرِّخ معاصر للحروب الصليبية أنه عندما زار الحرم الشريف غداة المذبحة الرهيبة التي أحدثها الصليبيون فيه، لم يستطع أن يشقَّ طريقه وسط أشلاء المسلمين إلاَّ في صعوبة بالغة، وأن دماء القتلى بلغت ركبتيه..
والجدير بالذكر أن القتل في هذا اليوم لم يكن خاصًّا بالمسلمين فقط، بل عانى منه اليهود أيضًا ، فلقد جمع الصليبيون اليهودَ في الكَنِيسِ ثم أحرقوه عليهم ! لقد كانت مجزرة تَطَهُّر عرقيّ بمعنى الكلمة.
ومع وصول الخبر إلى كل بقاع العالم الإسلامي سادت موجة كئيبة من الحزن والكمد، ولكنه - للأسف - كان حزنًا سلبيًّا، بل كان حزنًا مُقعِدًا شلَّ المسلمين عن الحركة، فلم نسمع عن حركة جيش لتحرير الأقصى والقدس وفلسطين، كما لم نسمع آنذاك نداءً شعبيًّا يُطالِب الحكام بحمل المسئولية, لقد كانت أزمة دينيَّة أخلاقية، شملت الشعوب جميعًا بحكَّامها ومحكوميها.


البابا باسكال التانى خلف اوربان التانى و اعتبر انتصار الصليبيين تحقيق لنبؤات الكتاب المقدس
وفي نفس الوقت عمَّت الفرحة أرجاء العالم المسيحي؛ فبيت المقدس لم يُحكم بالنصارى منذ خروج الدولة النورمانية منذ العام 16هـ\ 637م، أي منذ أكثر من أربعمائة وسبعين سنة، وبيت المقدس كان الهدف الرئيسي المُعلَن للحملة الصليبية، ومعنى هذا أن هذا هو أدلُّ برهان على نجاح الحملة وخطتها، ونجاح البابا أوربان الثاني فيما خطط له، لكن من الجدير بالذكر أن البابا أوربان لم يسعد بسماع أخبار سقوط بيت المقدس في أيدي جنوده، فقد مات في 29 من يوليو 1099م، أي بعد سقوط بيت المقدس بأسبوعين، لكن الخبر ينتقل من القدس إلى روما في وقت أطول من هذا بكثير، ومن ثَمَّ فقد ترك الدنيا دون أن يعرف أن ثمرة جهده على وجه التحقيق ! وما نحسب أنه كان سيحزن للمذابح التي ارتكبت باسم المسيح في بيت المقدس؛ لأنه شاهد قبلها مذابح أنطاكية ومعرَّة النعمان ولم يتكلم، بل وشاهد مذبحة سملين ضد نصارى المجَرِ ولم يتحرك، كما أن البابا الذي تولى مكانه - وهو باسكال الثاني - لم يُعَلِّق على الأمر مطلقًا، بل ولم يُعَلِّق عليه أيٌّ من البابوات على مر التاريخ، مع اعتراف جميع المؤرخين بأن هذه الحادثة البشعة راح ضحيتها عشرات الآلاف من المدنيين الأبرياء، ومع أنَّ بعض البابوات اعتذروا لليهود عن مذابح هتلر لهم، بل ورفعوا من على اليهود إثم تهمة قتل المسيح، مع قناعة المسيحيين - على خلاف عقيدتنا - أنه قُتل.

لقد صار السكوت على هذه الجريمة المنكرة أمرًا مطَّردًا وكأنه عقيدة يتوارثها الناس، وهذا إن دلَّ على شيء فإنما يدلُّ على أن الروح الصليبية القاسية التي قادت الجيوش إلى مثل هذه الأفعال ما زالت تسري في أجساد كثير من القادة، سواء القادة المدنيين أو العسكريين أو الفكريين.