الفصل الخامس:
موقف الغرب ( المسيحية السياسية ) من
الإسلام
(2) مختصر عن الحروب الصليبية
ثامن عشر: العالم الإسلامي قبل الحملة الصليبية الثانية
(3) الوضع في بلاد الشام:
موقف الغرب ( المسيحية السياسية ) من
الإسلام
(2) مختصر عن الحروب الصليبية
ثامن عشر: العالم الإسلامي قبل الحملة الصليبية الثانية
(3) الوضع في بلاد الشام:
الاحتلال الصليبي للقدس
لم يكن الحال في بلاد الشام مفرحًا قَطُّ في هذه السنة، ولا في التي بعدها ! وهذا حال متوقع لما ذكرناه قبل ذلك من أسباب: كذهاب العلم، وضياع قيمة الجهاد، وسلبية الشعب، وتسلط الحكام، وما إلى ذلك من أمراض, ولعل أبرز الأحداث التي رأيناها في أرض الشام في هاتين السنتين تشمل الآتي:
ميناء
جبيل
أولاً: استولى الصليبيون على ميناء
جبيل في لبنان جنوب طرابلس، وذلك
بمعونة أسطول بحري جنوي، وغدر الصليبيون بأهل جبيل بعد إعطائهم الأمان، وكافأ ريمونُ الرابع الأسطولَ الجنويّ الذي أسقط جبيل بإعطائه ثلث مدينة جبيل، لتصبح جبيل فيما بعد
مستوطنة جنوية، وبسقوط جبيل يكون ريمون الرابع قد
وضع الحدود المتوقعة لإمارة طرابلس، حيث يحدها من الشمال مدينة طرطوس، ومن الجنوب مدينة جبيل، ويبقى فقط أن يُسقِط المدينة الكبرى (طرابلس).
طرابلس في محافظة لبنان الشمالي
ثانيًا: أتم ريمون الرابع بناء قلعة كبيرة في مواجهة طرابلس مباشرة سماها سانت جيل، Saint Gilles، والمعروفة في المصادر العربية بقلعة الصنجيل
ثانيًا: أتم ريمون الرابع بناء قلعة كبيرة في مواجهة طرابلس مباشرة سماها سانت جيل، Saint Gilles، والمعروفة في المصادر العربية بقلعة الصنجيل
الأمير ريمون دي سان جيل الرابع كونت تولوز .
وقد بناها ريمون الرابع ليستخدمها في إسقاط طرابلس، ولقد نُقِلت
الأخشاب اللازمة لبنائها من قبرص بواسطة الأسطول البيزنطي المساعد لريمون، ولم يتحرك أحد من المسلمين في المنطقة لهدم القلعة أو منع بنائها، مع أن طرابلس محاطة من
شمالها الشرقي وشرقها وجنوبها الشرقي بإمارتي دمشق
وحمص التابعتين لدقاق بن تتش، وحيث توجد حمص على مسافة أقل من 90 كيلو مترًا، ودمشق على مسافة أقل من 120 كيلو مترًا.
حصار عكا
حصار عكا
ثالثًا: حادث آخر مفجع هزَّ العالم
هو سقوط مدينة عكا الحصينة في سنة
(497هـ) مايو 1104م، وكان سقوطها مفجعًا لأنها أحصن مدن الشام مطلقًا، وسقوطها يعني سقوط بقية المدن تقريبًا، كما أنه سيمنع وصول الإمدادات البحرية للمسلمين بعد ذلك، هذا
إضافةً إلى المجزرة التي تمت في المدينة بعد سقوطها،
على الرغم من الأمان الذي أعطاه الصليبيون للسكان، وقد تم
سقوط المدينة بمساعدة الأسطول الجنويّ الذي أسقط جبيل قبل ذلك ! ولهذا أعطى بلدوين الأول ثلث مدينة عكا للأسطول الجنويّ، وصارت عكا مدينة تابعة لمملكة بيت المقدس.
البحرية في العصور الوسطى: بيزة و جنوة والبندقية
رابعًا: بعد رحيل بوهيموند إلى إيطاليا بدأ تانكرد يرتب أوراقه وينظم جيشه، ودخل في سنة (498هـ) ربيع 1105م في معركة كبيرة مع رضوان ملك حلب، وانتصر في هذه المعركة ليسترد بها حصن أرتاح، وليقتل من المسلمين ثلاثة آلاف رجل !
تانكرد
رابعًا: بعد رحيل بوهيموند إلى إيطاليا بدأ تانكرد يرتب أوراقه وينظم جيشه، ودخل في سنة (498هـ) ربيع 1105م في معركة كبيرة مع رضوان ملك حلب، وانتصر في هذه المعركة ليسترد بها حصن أرتاح، وليقتل من المسلمين ثلاثة آلاف رجل !
تانكرد
خامسًا: تلقى المسلمون هزيمة أخرى في
منطقة الرملة في 498هـ\ 27 من
أغسطس سنة 1105م، وهو ما يعرف في التاريخ بموقعة الرملة الثالثة
تحرك الصليبيين حتى حصارهم لدمشق.
حيث هُزم الجيش العبيدي وتشتت شمله في محاولة فاشلة لاسترداد بيت المقدس، ولعلَّ هذه هي آخر المحاولات
الجادة التي بذلها العبيديون لاسترداد القدس.
العبيديون في مصر
العبيديون في مصر
سادسًا: تُوفِّي دقاق بن تتش في
رمضان (496هـ) 1103م، وتولى من بعده أتابكه طغتكين، وهو أحد مماليك
تتش بن ألب أرسلان والد دقاق، وكان
قائدًا عسكريًّا قويًّا صاحب خبرة مما جعل تتش يوكل إليه مهمة تربية دقاق، ومن ثَمَّ أعطاه لقب أتابك (أي مربي الأمير)، ولكن عندما ضعف الأمراء
السلاجقة صار للأتابكة العسكريين دور كبير في تسيير الأمور، بل وأحيانًا صار لهم الحكم صراحة، كما هو في حالتنا هذه، فقد أصبح طغتكين هو حاكم دمشق وحمص، وبذلك انتهى حكم
السلاجقة تمامًا لهاتين المدينتين، ولكن على
العموم فإن طغتكين كان أفضل كثيرًا من دقاق حيث آثر العدل مع الرعية، وحرص في فترات كثيرة من حياته على حرب الصليبيين،
وإن كانت قوته وقوة جيشه لم تمكِّنه من تحقيق نصر حاسم في حياته، وولاية طغتكين تُعَد بداية فترة حكم للتركمان استمرت مدة
52 سنة، حيث انتهت سنة (549هـ)\ 1154م.
النسب السلجوقي
سابعًا: تُوفِّي أيضًا في 2 من ربيع الآخر سنة (498هـ) ديسمبر 1104م السلطان بركياروق سلطان السلاجقة في منطقة فارس والعراق، وهذا بعد إتمام الصلح مع أخيه محمد كما مرَّ بنا - وكان يبلغ من العمر عند وفاته خمسًا وعشرين سنة فقط ! - وبعد عدة فتن، ونتيجة لموته استقام الأمر لأخيه السلطان محمد، فصار يحكم أملاكه وأملاك أخيه بركياروق، وهذا وحَّد الأمة في هذه المنطقة لفترة 12 سنة متصلة.
سابعًا: تُوفِّي أيضًا في 2 من ربيع الآخر سنة (498هـ) ديسمبر 1104م السلطان بركياروق سلطان السلاجقة في منطقة فارس والعراق، وهذا بعد إتمام الصلح مع أخيه محمد كما مرَّ بنا - وكان يبلغ من العمر عند وفاته خمسًا وعشرين سنة فقط ! - وبعد عدة فتن، ونتيجة لموته استقام الأمر لأخيه السلطان محمد، فصار يحكم أملاكه وأملاك أخيه بركياروق، وهذا وحَّد الأمة في هذه المنطقة لفترة 12 سنة متصلة.
غياث الدنيا والدين محمد بن ملكشاه بن ألب أرسلان توفي 1118 م
ثامنًا: من الشخصيات المهمة التي تُوفِّيت أيضًا في سنة (498هـ) فبراير 1105م الأمير الفرنسي الشهير ريمون الرابع ! وقد تُوفِّي في القلعة التي بناها في مواجهة طرابلس لحصارها، وكانت النار قد اشتعلت في القلعة نتيجة مقاومة أهل طرابلس للحصار، فسقطت بعض الأخشاب المحترقة على ريمون، فمات متأثرًا بجراحه, وهكذا فقد الصليبيون زعيمًا شرسًا من زعمائهم دون أن يرى لنفسه إمارة كأقرانه، وقد ترك حكم جيشه بعد ذلك لابن خالته وليم جوردان الذي استأنف سياسة ريمون بكاملها حيث صمم على إسقاط طرابلس، ومن ثَمَّ استمر في حصارها، وكذلك تعاون مع الإمبراطور البيزنطي ألكسيوس كومنين كما كان يفعل ريمون.
ثامنًا: من الشخصيات المهمة التي تُوفِّيت أيضًا في سنة (498هـ) فبراير 1105م الأمير الفرنسي الشهير ريمون الرابع ! وقد تُوفِّي في القلعة التي بناها في مواجهة طرابلس لحصارها، وكانت النار قد اشتعلت في القلعة نتيجة مقاومة أهل طرابلس للحصار، فسقطت بعض الأخشاب المحترقة على ريمون، فمات متأثرًا بجراحه, وهكذا فقد الصليبيون زعيمًا شرسًا من زعمائهم دون أن يرى لنفسه إمارة كأقرانه، وقد ترك حكم جيشه بعد ذلك لابن خالته وليم جوردان الذي استأنف سياسة ريمون بكاملها حيث صمم على إسقاط طرابلس، ومن ثَمَّ استمر في حصارها، وكذلك تعاون مع الإمبراطور البيزنطي ألكسيوس كومنين كما كان يفعل ريمون.
الإمبراطور البيزنطي ألكسيوس كومنين
تاسعًا: حدثت أزمة في إمارة الموصل
نتيجة محاولة السلطان محمد السيطرة
على مدينة الموصل ورفض جكرمش لهذه السيطرة لولائه لبركياروق، مع أن الموصل كانت في الصلح الذي تمَّ بين بركياروق ومحمد من حق السلطان محمد، إلا أن جكرمش كانت له ميول
استقلالية جعلته يرفض تسليم المدينة، غير أن
أخبار وفاة بركياروق ما لبثت أن أتت، ومن ثَمَّ اضطر جكرمش إلى التسليم للسلطان محمد، وإن كان هذا التسليم مؤقتًا كما سيتبين لنا.
عاشرًا: فَقَد المسلمون في سنة (498هـ)1105م شخصية مهمة كان لها دور بارز في جهاد الصليبيين، وهو سقمان بن أرتق صاحب حصن كيفا، والذي حقق الانتصار في موقعة البليخ بالاشتراك مع جكرمش كما فصلنا، ولقد كان موته مؤثرًا جدًّا، حيث كان في سرية عسكرية هبت لنجدة طرابلس عندما إستغاثه حاكمها ابن عمار لحصار ريمون ثم وليم جوردان لها، وعلى الرغم من كون ابن عمار شيعيًّا وجيشه كذلك، إلا أن سقمان بن أرتق رحمه الله لم ينظر إلى ذلك، إنما نظر إلى العدو المشترك للسنة والشيعة وهو العدو الصليبي، ومن ثَمَّ تقدم في بسالة، قاطعًا المسافات من حصن كيفا إلى طرابلس (ما يقرب من ستمائة كيلو متر)، وكان سقمان مريضًا بداء الخوانيق - وهو مرض يعني حدوث اختناق في التنفس - وكان يأتيه في نوبات، فجاءته هذه النوبة وهو عند القريتين (على بعد 120 كم من طرابلس)، وعرض عليه أصحابه أن يعودوا به إلى حصن كيفا؛ حيث لن يقدر على القتال في هذه الحالة، فقال كلمته الخالدة: "بل أسير، فإن عوفيت تممت ما عزمت عليه، ولا يراني الله تثاقلت عن قتال الكفار خوفًا من الموت، وإن أدركني أجلي كنت شهيدًا سائرًا في جهاد"، فساروا به صوب طرابلس، ولكنه مات بعد يومين !إنه صورة مشرقة في وسط هذا الركام أبتْ إلا أن تلقى الله مقبلة غير مدبرة ، فرحمه الله رحمة واسعة ، وجعل مسيره هذا طريقًا له إلى الجنة .
واستكمالا لبعض الأحداث المؤسفة نخوض قليلاً في تطورات الأحداث في الموصل، وما كنت أود أن أخوض في تفاصيل دقيقة لصراعات وأزمات، لولا أن أثر هذه الصراعات سيكون كبيرًا، فالموصل بالذات - كما ذكرنا - لها وضع خاص، ومنها خرجت وستخرج حركات جهاد كثيرة، وشعبها في ذلك الوقت على وعيٍ كبير، وعلم واسع، كما أن هذه التطورات ستؤدي إلى اختفاء شخصيات مهمة مرت معنا في قصتنا في أكثر من موضع.
كنا قد ذكرنا أن جكرمش أبدى الموالاة للسلطان محمد بعد وفاة السلطان بركياروق، ولكن مع مرور الوقت تثاقل جكرمش في إرسال الخراج إلى السلطان محمد؛ مما جعله يشكك في ولائه، وراسله في ذلك، فتعلَّل جكرمش، وهكذا تيقن السلطان محمد أن جكرمش يريد الانفراد بالموصل مستغِّلاً حب الناس له، فاضطر السلطان محمد أن يرسل أحد العسكريين الأشداء لاسترداد الموصل لصالح السلطان، ولكن - للأسف - هذا العسكري كان سيئ الخلق، وحشيًّا في تعاملاته، مكروهًا من العامة، وكان اسمه (جاولي سقاوو) وهو من الأتراك، فسار جاولي إلى الموصل، والتقى معه جكرمش في موقعة على ضفاف دجلة في سنة (500هـ) 1106م، وهُزم جكرمش بل أسر أيضًا، ولكن شعب الموصل رفض فتح الأسوار لجاولي سقاوو، وأقاموا عليهم زنكي بن جكرمش، وهو ابن زعيمهم المحبوب جكرمش، وهذا يدل على إيجابية عالية عند هذا الشعب الواعي، وإن كان الأَوْلَى أن تدخل الموصل تحت حكم السلطان محمد، لكن السيرة السيئة لجاولي سقاوو جعلت الشعب يأخذ هذا الموقف، وراسل الشعب شخصية قوية تأتي لتسانده في هذه الأزمة، وهذه الشخصية هي قلج أرسلان سلطان سلاجقة الروم !
عاشرًا: فَقَد المسلمون في سنة (498هـ)1105م شخصية مهمة كان لها دور بارز في جهاد الصليبيين، وهو سقمان بن أرتق صاحب حصن كيفا، والذي حقق الانتصار في موقعة البليخ بالاشتراك مع جكرمش كما فصلنا، ولقد كان موته مؤثرًا جدًّا، حيث كان في سرية عسكرية هبت لنجدة طرابلس عندما إستغاثه حاكمها ابن عمار لحصار ريمون ثم وليم جوردان لها، وعلى الرغم من كون ابن عمار شيعيًّا وجيشه كذلك، إلا أن سقمان بن أرتق رحمه الله لم ينظر إلى ذلك، إنما نظر إلى العدو المشترك للسنة والشيعة وهو العدو الصليبي، ومن ثَمَّ تقدم في بسالة، قاطعًا المسافات من حصن كيفا إلى طرابلس (ما يقرب من ستمائة كيلو متر)، وكان سقمان مريضًا بداء الخوانيق - وهو مرض يعني حدوث اختناق في التنفس - وكان يأتيه في نوبات، فجاءته هذه النوبة وهو عند القريتين (على بعد 120 كم من طرابلس)، وعرض عليه أصحابه أن يعودوا به إلى حصن كيفا؛ حيث لن يقدر على القتال في هذه الحالة، فقال كلمته الخالدة: "بل أسير، فإن عوفيت تممت ما عزمت عليه، ولا يراني الله تثاقلت عن قتال الكفار خوفًا من الموت، وإن أدركني أجلي كنت شهيدًا سائرًا في جهاد"، فساروا به صوب طرابلس، ولكنه مات بعد يومين !إنه صورة مشرقة في وسط هذا الركام أبتْ إلا أن تلقى الله مقبلة غير مدبرة ، فرحمه الله رحمة واسعة ، وجعل مسيره هذا طريقًا له إلى الجنة .
واستكمالا لبعض الأحداث المؤسفة نخوض قليلاً في تطورات الأحداث في الموصل، وما كنت أود أن أخوض في تفاصيل دقيقة لصراعات وأزمات، لولا أن أثر هذه الصراعات سيكون كبيرًا، فالموصل بالذات - كما ذكرنا - لها وضع خاص، ومنها خرجت وستخرج حركات جهاد كثيرة، وشعبها في ذلك الوقت على وعيٍ كبير، وعلم واسع، كما أن هذه التطورات ستؤدي إلى اختفاء شخصيات مهمة مرت معنا في قصتنا في أكثر من موضع.
كنا قد ذكرنا أن جكرمش أبدى الموالاة للسلطان محمد بعد وفاة السلطان بركياروق، ولكن مع مرور الوقت تثاقل جكرمش في إرسال الخراج إلى السلطان محمد؛ مما جعله يشكك في ولائه، وراسله في ذلك، فتعلَّل جكرمش، وهكذا تيقن السلطان محمد أن جكرمش يريد الانفراد بالموصل مستغِّلاً حب الناس له، فاضطر السلطان محمد أن يرسل أحد العسكريين الأشداء لاسترداد الموصل لصالح السلطان، ولكن - للأسف - هذا العسكري كان سيئ الخلق، وحشيًّا في تعاملاته، مكروهًا من العامة، وكان اسمه (جاولي سقاوو) وهو من الأتراك، فسار جاولي إلى الموصل، والتقى معه جكرمش في موقعة على ضفاف دجلة في سنة (500هـ) 1106م، وهُزم جكرمش بل أسر أيضًا، ولكن شعب الموصل رفض فتح الأسوار لجاولي سقاوو، وأقاموا عليهم زنكي بن جكرمش، وهو ابن زعيمهم المحبوب جكرمش، وهذا يدل على إيجابية عالية عند هذا الشعب الواعي، وإن كان الأَوْلَى أن تدخل الموصل تحت حكم السلطان محمد، لكن السيرة السيئة لجاولي سقاوو جعلت الشعب يأخذ هذا الموقف، وراسل الشعب شخصية قوية تأتي لتسانده في هذه الأزمة، وهذه الشخصية هي قلج أرسلان سلطان سلاجقة الروم !
قلج أرسلان الثاني
رأى قلج أرسلان أن هذه فرصته لامتلاك الموصل، ولفتح الطريق لتوسيع مملكته، وجاء بجيشه إلى الموصل ففتح له السكان الأبواب وسط ترحيب، فدخل المدينة وملكها، ثم خرج لقتال جاولي سقاوو، ودارت موقعة كبيرة بينهما هُزم فيها قلج أرسلان، ثم اضطر إلى الهرب فسقط في نهر الخابور، ولم يستطع النجاة فغرق، ولم تظهر جثته إلا بعد عدة أيام !
وهكذا جاء قلج أرسلان من آسيا الصغرى يدفعه طموحه لتوسيع ملكه، وتقوية سلطته، فإذا به جاء ليلقى حتفه في بلاد غريبة عن بلاده، وفي أرض يطؤها لأول مرة في حياته !! قال تعالى: (وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ )..
وشتَّان بين ميتة قلج أرسلان الذي ملك بلادًا واسعة، وجاء ليزيدها اتساعا، وميتة سقمان بن أرتق الذي لم يملك إلا إمارة صغيرة، ولكنه مات وهو في طريقه لجهاد الصليبيين !
(القناطر) احد المعالم التي تشتهر بها مدينة الموصل القديمة
وعلى العموم فقد دخل جاولي سقاوو مدينة الموصل بعد غياب المدافعين عنها، وعامل أهلها في منتهى الغلظة، وأسرف جنوده في اضطهاد السكان ثم لم يلبث جاولي سقاوو أن استقل بالمدينة سنة (502هـ) 1108م، وكان هذا متوقعًا من رجل شرس مثله، فاضطر السلطان محمد أن يرسل له أحد أتباعه لردِّ الموصل إلى سيطرة السلطان، ولكن في هذه المرة كان مبعوث السلطان رجلاً فاضلاً عالمًا مجاهدًا هو القائد الفذُّ مودود بن التونتكين، وهو من التركمان الأخيار، وحاصر مودود مدينة الموصل، وقاومه جاولي وجنوده، وحذر جاولي العامة من الاقتراب من الأسوار لعلمه بتعاطف العامة مع الصالحين وكراهيتهم له، وشدَّد عليهم في ذلك، لكن الشعب لم تمُتْ فيه النخوة، فاجتمعت طائفة من الشعب، وتعاهدوا على فتح الأبواب، واتفقوا على استغلال وقت صلاة الجمعة والجميع بالمساجد، فخرجوا بالفعل في ذلك الوقت إلى أحد الأبراج، وقاتلوا حرَّاسه وقتلوهم، وفتحوا الأبواب وهم ينادون باسم السلطان محمد، فأسرع إليهم جند السلطان بقيادة مودود، ودخلوا المدينة وقاتلوا جنود جاولي، وما لبثوا أن سيطروا على المدينة، غير أن جاولي هرب آخذًا معه صيدًا ثمينًا هو الأمير بلدوين دي بورج الذي كان أسيرًا في مدينة الموصل من أربع سنوات، وقد أخذه - لا شك - لأنه يعلم أن قيمته كبيرة، ويستطيع أن يفاوض عليه أو يبيعه !
جوسلين دي كورتناي
في ذلك الوقت كان جوسلين دي كورتناي - وهو أمير تل باشر، والقائد التالي مباشرة بعد بلدوين دي بورج - قد أطلق سراحه في مقابل عشرين ألف دينار، ومن ثَمَّ سعى بجدية لإطلاق سراح بلدوين دي بورج الذي أصبح الآن في قبضة جاولي الهارب من الموصل،لقد صار الموقف في غاية التعقيد !!
مودود الآن يحكم الموصل ، وجاولي يهرب ببلدوين دي بورج ، وجوسلين دي كورتناي يحاول فك أسر بلدوين دي بورج ، وإمارة الرها تحت حكم تانكرد منذ 4 سنوات ، وكان تانكرد متسلطًا على شعب الرها وغالبه من الأرمن ، وكان تانكرد مستقرًّا في أنطاكية بعد رحيل بوهيموند عنها، ولكنه كان ينيب عنه في الرها ابن عمه ريتشارد سالرنو .
في ظل هذه الأجواء وصل جوسلين دي كورتناي إلى جاولي، وسرعان ما بدأ التفاوض المادي حول الأسير الأمير، ووصل الطرفان إلى إطلاق سراح بلدوين دي بورج في مقابل سبعين ألف دينار، إضافةً إلى وقوف بلدوين دي بورج إلى جوار جاولي والعكس أيضًا عند الأزمات العسكرية ! أي أنها معاهدة دفاع مشترك.
وأطلق سراح بلدوين دي بورج بالفعل وأسرع إلى إمارته، غير أنه فوجئ أن تانكرد يرفض تسليمه الإمارة بعد أن أعجبته لثرواتها وموقعها ! وهنا لم يجد بلدوين دي بورج حلاًّ بديلاً للحرب لاسترداد إمارته من الصليبي تانكرد !
في هذا الوقت كان جاولي يحاول أن يكون لنفسه إمارة في المنطقة مستخدمًا جيشه الإجرامي، والمال الوفير الذي توفر في يده، وكان يسعى لتكوين هذه الإمارة على حساب بعض الأملاك لمملكة حلب المملوكة لرضوان بن تتش.
وعلى هذا أدت هذه الظروف المعقدة إلى حرب عجيبة، قامت فيها أحلاف أعجب ! فقد تحالف الصليبي بلدوين دي بورج وجوسلين دي كورتناي وجيشه مع المسلم جاولي وفرقته، ليحاربوا تانكرد الصليبي الذي تحالف مع رضوان بن تتش عدوه القديم، والذي يعاني الآن من هجمات جاولي !!أيُّ غيابٍ للفهم هذا ! وأي ضياع للعقل !
بلدة منبج غربي الفرات
ودارت معركة بين الفريقين عند بلدة منبج غربي الفرات، وذلك في (502هـ) أكتوبر سنة 1108م وهُزم فريق بلدوين وجاولي، وكان النصر حليفًا لتانكرد ورضوان، غير أن بطرك أنطاكية تدخل في الأمر، وأمر بأن يعود بلدوين دي بورج لحكم الرها، ويبقى تانكرد في أنطاكية، وذلك حتى لا يستمر النزاع بين الصليبيين !
في هذا الوقت كان الأرمن من سكان الرها يعتقدون أن هزيمة بلدوين دي بورج وجوسلين دي كورتناي ستمنعهما من العودة إلى الرها، فقاموا باجتماع كبير أظهروا فيه رغبتهم في الخروج كلية من سيطرة الصليبيين، وقد ضاقوا ذرعًا بحكم تانكرد لهم، ولن يختلف حكم غيره من الصليبيين عن حكمه، ولكن ما لبث بلدوين دي بورج أن ظهر في الصورة، ودخل المدينة حاكمًا، وعلم بهذا الاجتماع، ومن ثَمَّ انقلب على أهل المدينة، وعزل كل الكبار من الأرمن، بل هدد أسقف الكنيسة الأرمينية بسَمْلِ عينيه، ولم يفتدِ نفسه إلا بمبلغ كبير من المال، وكل هذا أدى إلى حالة كبيرة من السخط داخل المدينة، واضطراب عام في الأوضاع، وهذا - لا شك - سيكون له أثر في عدم استقرار تلك الإمارة.
إمارة الرها وما حولها من الدول الأخرى في الشرق الأوسط عام 1135
وهكذا عاد تانكرد لحكم إمارة أنطاكية، بل إنه أفلح في استرداد اللاذقية من الدولة البيزنطية في نفس السنة، أي في سنة (502هـ) 1108م، وأصبح بلدوين دي بورج أميرًا من جديد على الرها، ولعله من المناسب أن ننظر نظرة إلى منطقة طرابلس؛ لأن الأحداث فيها في ذلك الوقت كانت في منتهى السخونة.
لقد كان الحصار مستحكمًا حول طرابلس بقيادة وليم جوردان خليفة ريمون الرابع وابن خالته، وهذا الحصار كان ريمون قد بدأه في سنة (495هـ) 1102م، أي منذ 6 سنوات كاملة، وفي غضون هذه السنوات الست لم تتلقَّ طرابلس أي مساعدة إسلامية خارجية، لا من الإمارات السنية المحيطة بها، ولا من الدولة العبيدية الشيعية المتمركزة في مصر، وكما هو معلوم فطرابلس كانت محكومة ببني عمار الشيعة، وكان أميرها هو فخر الملك ابن عمار.
لم يجد ابن عمار بُدًّا من ترك طرابلس تحت الحصار، وذلك في سنة (502هـ) 1108م ليذهب إلى بغداد لمقابلة الخليفة العباسي المستظهر بالله، والسلطان السلجوقي محمد للاستنجاد بهما وبجيوشهما، لكن للاختلاف المذهبي بين الفريقين لم يُقدِّم الخليفة والسلطان لابن عمار سوى بعض الكلمات التشجيعية والعبارات التأيدية، تاركين بذلك طرابلس تسقط تحت أقدام الصليبيين ! ولا شك أن هذا نقص في الفهم، وغياب في الرؤية، فتقوية ابن عمار إضعاف للصليبيين، وطرابلس في النهاية مدينة مسلمة، ولم نطلب من الخليفة والسلطان هنا أن يغيرا من عقائدهما، أو يبدلا من مبادئهما، ولكننا نطلب النخوة للدماء التي تُسال، والنجدة للأرواح التي تزهق، والشجاعة في وجه الصليبيين ! ولكن كل ذلك لم يحدث، وعاد ابن عمار ليجد أن طرابلس قد طارت من يده، لا إلى الصليبيين ولكن إلى العبيديين ! فقد استنجد أهلها بهم في غياب ابن عمار، فجاءوا بأساطيل من مصر، وأخذوها لحسابهم ! كل هذا والجيش الصليبي يحاصر المدينة من خارجها !
بونز بن برترام بن ريمون الرابع
وفي هذه الأثناء وصل إلى أرض الشام برترام بن ريمون الرابع يبحث عن ملك أبيه ! وبعد صراع وصدام مع وليم جوردان تدخل بلدوين الأول ليقسم بلاد المسلمين بين الأميرين الصليبيين، فأعطى وليم جوردان عرقة وطرطوس، في حين أخذ برترام بن ريمون قلعة صنجيل التي بناها أبوه ومدينة جبيل، على أن يأخذ برترام مدينة طرابلس حال سقوطها.
ثم سعى بلدوين الأول ملك بيت المقدس في تجميع الجهود الصليبية لإسقاط طرابلس، وبالفعل - وهذه أول مرةٍ منذ زمن - تجتمع جيوش برترام ووليم جوردان مع جيوش بلدوين الأول ملك بيت المقدس وجيوش تانكرد أمير أنطاكية، إضافةً إلى أسطول جنويّ كبير؛ وذلك لإسقاط المدينة العنيدة طرابلس !
ملك القدس بلدوين الأول محاطًا بفرسانه
ووجدت المدينة المسلمة نفسها وحيدة أمام الطوفان، وأحيط بالشعب المسكين، وسرعان ما دارت المفاوضات بين الحامية العبيدية (الفاطمية) وزعماء الجيش الصليبي على تأمين الحامية وإخراجها في سلام، وفتح أبواب المدينة للصليبيين، مع الوعد بصيانة دماء وأعراض المسلمين، ويتكرر بذلك سيناريو الأحداث في بيت المقدس، وكأنَّ الحامية العبيدية ليس لها دور إلا تسليم المدن الإسلامية إلى جيوش الصليبيين !
وخرجت بالفعل الحامية العبيدية في أمان، ودخل الصليبيون إلى مدينة طرابلس في أواخر سنة 503هـ، وتحديدًا في الحادي عشر من ذي الحجة ثاني أيام عيد الأضحى المبارك (1109م) !
غير أن الجيش الصليبي - كما هو متوقع - غدر بالمسلمين فقتل الكثير من أهل المدينة، وأسر بقية الرجال، وتم سبي كل النساء والأطفال، ونهبت الأموال الغزيرة؛ فقد كانت طرابلس من أغنى المدن الإسلامية، وغنم الصليبيون ما لا يحصى من كتب العلم الموقوفة، بل حرق الصليبيون في ميادين طرابلس أعدادًا لا يمكن إحصاؤها من الكتب والمخطوطات !
وبسقوط طرابلس تكون الإمارة الصليبية الرابعة قد تكوَّنت بعد حصار سبع سنوات متصلة، ويكون حلم ريمون الرابع قد تحقق بعد موته، وامتلك المدينة أبنه برترام بن ريمون، لتدخل المدينة فترة عصيبة من تاريخها لم تنتهِ إلا بعد مائعة وثمانين سنة كاملة !!
كهف بانياس الجولان حيث خاطب السيد المسيح بطرس الرسول
ولم تلبث القلاع الإسلامية المتبقية في ساحل الشام أن تساقطت بعد حالة الإحباط المزرية التي أصابت المسلمين ، فسقطت مدينتا بانياس وجبلة في يد تانكرد وضمهما إلى إمارة أنطاكية ، ثم تبعتها بيروت حيث سقطت - بعد حصار 4 أشهر - في يد بلدوين الأول ملك بيت المقدس بمساعدة برترام بن ريمون في سنة (503هـ) مايو 1110م ، وذلك بعد حدوث مذبحة رهيبة في أهل بيروت المسلمين ، وأخيرًا سقطت مدينة صيدا اللبنانية ، وذلك لحساب بلدوين الأول ملك بيت المقدس ، وبمساعدة أسطول بحري بقيادة ملك النرويج شخصيًّا ، وأسطول آخر بندقي بقيادة دوق البندقية نفسه !
وعلى ذلك سقطت كل مدن الساحل الشامي من أنطاكية شمالاً إلى يافا جنوبًا، ولم يبق من كل هذه المدن العديدة إلا صور وعسقلان اللتان تأخر سقوطهما نسبيًّا، وظلتا فترة تحت الحكم العبيدي المصري !
قلعة حلب
أما المدن الداخلية فقد ذاقت هي الأخرى ألوان الذل، وإن لم تقبع تحت الاحتلال المباشر؛ فتانكرد على سبيل المثال حاصر حصن الأثارب غرب حلب - وهو حصن خطير في الطريق بين حلب وأنطاكية، وهو تابع لإمارة حلب - وعرض تانكرد فك الحصار في مقابل دفع رضوان مبلغ ثلاثين ألف دينار، ولكن رضوان لم يكن يريد دفع هذا المبلغ الكبير، ولم يكن يريد قتال تانكرد، فترك حصن الأثارب يسقط وكان ذلك في سنة (504هـ)، وقتل الصليبيون ألفين من رجال المسلمين في داخل الحصن، وأسروا الباقي ! لكن المشكلة الكُبْرَى أن السيطرة على هذا الحصن جعل حلب مهددة طوال الوقت، وتكرر حصارها إلى الدرجة التي آذت أهلها جدًّا، ولم يستطيعوا أن يخرجوا بسهولة إلى مزارعهم وتجارتهم؛ مما دفع الكثير من سكانها إلى الهجرة إلى بغداد وغيرها، وهذا بدوره دفع رضوان إلى عقد صلح مجحف مع تانكرد يتكفل فيه بدفع ثلاثين ألف دينار دون أن يتخلى تانكرد عن حصن الأثارب، بل إن تانكرد أحتل حصنًا آخر هو حصن زردنا، إضافةً إلى إطلاق كل أسرى الصليبيين والأرمن الموجودين في سجون حلب، ومن هنا تدهور الحال جدًّا في حلب.
حصار قلعة شيزر
ومثلما حدث في حلب حدث في شيزر حيث دفع أميرها سلطان بن منقذ الجزية لتانكرد، وكذلك تكرر الأمر في حماة حيث تكفل أميرها علي الكردي بدفع الجزية هو الآخر لتانكرد نظير مسالمته !
وهكذا أصبح تانكرد هو سيد المنطقة الشمالية من الشام، كما أصبح بلدوين الأول هو سيد المنطقة الجنوبية من الشام وكذلك فلسطين.
رأى قلج أرسلان أن هذه فرصته لامتلاك الموصل، ولفتح الطريق لتوسيع مملكته، وجاء بجيشه إلى الموصل ففتح له السكان الأبواب وسط ترحيب، فدخل المدينة وملكها، ثم خرج لقتال جاولي سقاوو، ودارت موقعة كبيرة بينهما هُزم فيها قلج أرسلان، ثم اضطر إلى الهرب فسقط في نهر الخابور، ولم يستطع النجاة فغرق، ولم تظهر جثته إلا بعد عدة أيام !
وهكذا جاء قلج أرسلان من آسيا الصغرى يدفعه طموحه لتوسيع ملكه، وتقوية سلطته، فإذا به جاء ليلقى حتفه في بلاد غريبة عن بلاده، وفي أرض يطؤها لأول مرة في حياته !! قال تعالى: (وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ )..
وشتَّان بين ميتة قلج أرسلان الذي ملك بلادًا واسعة، وجاء ليزيدها اتساعا، وميتة سقمان بن أرتق الذي لم يملك إلا إمارة صغيرة، ولكنه مات وهو في طريقه لجهاد الصليبيين !
(القناطر) احد المعالم التي تشتهر بها مدينة الموصل القديمة
وعلى العموم فقد دخل جاولي سقاوو مدينة الموصل بعد غياب المدافعين عنها، وعامل أهلها في منتهى الغلظة، وأسرف جنوده في اضطهاد السكان ثم لم يلبث جاولي سقاوو أن استقل بالمدينة سنة (502هـ) 1108م، وكان هذا متوقعًا من رجل شرس مثله، فاضطر السلطان محمد أن يرسل له أحد أتباعه لردِّ الموصل إلى سيطرة السلطان، ولكن في هذه المرة كان مبعوث السلطان رجلاً فاضلاً عالمًا مجاهدًا هو القائد الفذُّ مودود بن التونتكين، وهو من التركمان الأخيار، وحاصر مودود مدينة الموصل، وقاومه جاولي وجنوده، وحذر جاولي العامة من الاقتراب من الأسوار لعلمه بتعاطف العامة مع الصالحين وكراهيتهم له، وشدَّد عليهم في ذلك، لكن الشعب لم تمُتْ فيه النخوة، فاجتمعت طائفة من الشعب، وتعاهدوا على فتح الأبواب، واتفقوا على استغلال وقت صلاة الجمعة والجميع بالمساجد، فخرجوا بالفعل في ذلك الوقت إلى أحد الأبراج، وقاتلوا حرَّاسه وقتلوهم، وفتحوا الأبواب وهم ينادون باسم السلطان محمد، فأسرع إليهم جند السلطان بقيادة مودود، ودخلوا المدينة وقاتلوا جنود جاولي، وما لبثوا أن سيطروا على المدينة، غير أن جاولي هرب آخذًا معه صيدًا ثمينًا هو الأمير بلدوين دي بورج الذي كان أسيرًا في مدينة الموصل من أربع سنوات، وقد أخذه - لا شك - لأنه يعلم أن قيمته كبيرة، ويستطيع أن يفاوض عليه أو يبيعه !
جوسلين دي كورتناي
في ذلك الوقت كان جوسلين دي كورتناي - وهو أمير تل باشر، والقائد التالي مباشرة بعد بلدوين دي بورج - قد أطلق سراحه في مقابل عشرين ألف دينار، ومن ثَمَّ سعى بجدية لإطلاق سراح بلدوين دي بورج الذي أصبح الآن في قبضة جاولي الهارب من الموصل،لقد صار الموقف في غاية التعقيد !!
مودود الآن يحكم الموصل ، وجاولي يهرب ببلدوين دي بورج ، وجوسلين دي كورتناي يحاول فك أسر بلدوين دي بورج ، وإمارة الرها تحت حكم تانكرد منذ 4 سنوات ، وكان تانكرد متسلطًا على شعب الرها وغالبه من الأرمن ، وكان تانكرد مستقرًّا في أنطاكية بعد رحيل بوهيموند عنها، ولكنه كان ينيب عنه في الرها ابن عمه ريتشارد سالرنو .
في ظل هذه الأجواء وصل جوسلين دي كورتناي إلى جاولي، وسرعان ما بدأ التفاوض المادي حول الأسير الأمير، ووصل الطرفان إلى إطلاق سراح بلدوين دي بورج في مقابل سبعين ألف دينار، إضافةً إلى وقوف بلدوين دي بورج إلى جوار جاولي والعكس أيضًا عند الأزمات العسكرية ! أي أنها معاهدة دفاع مشترك.
وأطلق سراح بلدوين دي بورج بالفعل وأسرع إلى إمارته، غير أنه فوجئ أن تانكرد يرفض تسليمه الإمارة بعد أن أعجبته لثرواتها وموقعها ! وهنا لم يجد بلدوين دي بورج حلاًّ بديلاً للحرب لاسترداد إمارته من الصليبي تانكرد !
في هذا الوقت كان جاولي يحاول أن يكون لنفسه إمارة في المنطقة مستخدمًا جيشه الإجرامي، والمال الوفير الذي توفر في يده، وكان يسعى لتكوين هذه الإمارة على حساب بعض الأملاك لمملكة حلب المملوكة لرضوان بن تتش.
وعلى هذا أدت هذه الظروف المعقدة إلى حرب عجيبة، قامت فيها أحلاف أعجب ! فقد تحالف الصليبي بلدوين دي بورج وجوسلين دي كورتناي وجيشه مع المسلم جاولي وفرقته، ليحاربوا تانكرد الصليبي الذي تحالف مع رضوان بن تتش عدوه القديم، والذي يعاني الآن من هجمات جاولي !!أيُّ غيابٍ للفهم هذا ! وأي ضياع للعقل !
بلدة منبج غربي الفرات
ودارت معركة بين الفريقين عند بلدة منبج غربي الفرات، وذلك في (502هـ) أكتوبر سنة 1108م وهُزم فريق بلدوين وجاولي، وكان النصر حليفًا لتانكرد ورضوان، غير أن بطرك أنطاكية تدخل في الأمر، وأمر بأن يعود بلدوين دي بورج لحكم الرها، ويبقى تانكرد في أنطاكية، وذلك حتى لا يستمر النزاع بين الصليبيين !
في هذا الوقت كان الأرمن من سكان الرها يعتقدون أن هزيمة بلدوين دي بورج وجوسلين دي كورتناي ستمنعهما من العودة إلى الرها، فقاموا باجتماع كبير أظهروا فيه رغبتهم في الخروج كلية من سيطرة الصليبيين، وقد ضاقوا ذرعًا بحكم تانكرد لهم، ولن يختلف حكم غيره من الصليبيين عن حكمه، ولكن ما لبث بلدوين دي بورج أن ظهر في الصورة، ودخل المدينة حاكمًا، وعلم بهذا الاجتماع، ومن ثَمَّ انقلب على أهل المدينة، وعزل كل الكبار من الأرمن، بل هدد أسقف الكنيسة الأرمينية بسَمْلِ عينيه، ولم يفتدِ نفسه إلا بمبلغ كبير من المال، وكل هذا أدى إلى حالة كبيرة من السخط داخل المدينة، واضطراب عام في الأوضاع، وهذا - لا شك - سيكون له أثر في عدم استقرار تلك الإمارة.
إمارة الرها وما حولها من الدول الأخرى في الشرق الأوسط عام 1135
وهكذا عاد تانكرد لحكم إمارة أنطاكية، بل إنه أفلح في استرداد اللاذقية من الدولة البيزنطية في نفس السنة، أي في سنة (502هـ) 1108م، وأصبح بلدوين دي بورج أميرًا من جديد على الرها، ولعله من المناسب أن ننظر نظرة إلى منطقة طرابلس؛ لأن الأحداث فيها في ذلك الوقت كانت في منتهى السخونة.
لقد كان الحصار مستحكمًا حول طرابلس بقيادة وليم جوردان خليفة ريمون الرابع وابن خالته، وهذا الحصار كان ريمون قد بدأه في سنة (495هـ) 1102م، أي منذ 6 سنوات كاملة، وفي غضون هذه السنوات الست لم تتلقَّ طرابلس أي مساعدة إسلامية خارجية، لا من الإمارات السنية المحيطة بها، ولا من الدولة العبيدية الشيعية المتمركزة في مصر، وكما هو معلوم فطرابلس كانت محكومة ببني عمار الشيعة، وكان أميرها هو فخر الملك ابن عمار.
لم يجد ابن عمار بُدًّا من ترك طرابلس تحت الحصار، وذلك في سنة (502هـ) 1108م ليذهب إلى بغداد لمقابلة الخليفة العباسي المستظهر بالله، والسلطان السلجوقي محمد للاستنجاد بهما وبجيوشهما، لكن للاختلاف المذهبي بين الفريقين لم يُقدِّم الخليفة والسلطان لابن عمار سوى بعض الكلمات التشجيعية والعبارات التأيدية، تاركين بذلك طرابلس تسقط تحت أقدام الصليبيين ! ولا شك أن هذا نقص في الفهم، وغياب في الرؤية، فتقوية ابن عمار إضعاف للصليبيين، وطرابلس في النهاية مدينة مسلمة، ولم نطلب من الخليفة والسلطان هنا أن يغيرا من عقائدهما، أو يبدلا من مبادئهما، ولكننا نطلب النخوة للدماء التي تُسال، والنجدة للأرواح التي تزهق، والشجاعة في وجه الصليبيين ! ولكن كل ذلك لم يحدث، وعاد ابن عمار ليجد أن طرابلس قد طارت من يده، لا إلى الصليبيين ولكن إلى العبيديين ! فقد استنجد أهلها بهم في غياب ابن عمار، فجاءوا بأساطيل من مصر، وأخذوها لحسابهم ! كل هذا والجيش الصليبي يحاصر المدينة من خارجها !
بونز بن برترام بن ريمون الرابع
وفي هذه الأثناء وصل إلى أرض الشام برترام بن ريمون الرابع يبحث عن ملك أبيه ! وبعد صراع وصدام مع وليم جوردان تدخل بلدوين الأول ليقسم بلاد المسلمين بين الأميرين الصليبيين، فأعطى وليم جوردان عرقة وطرطوس، في حين أخذ برترام بن ريمون قلعة صنجيل التي بناها أبوه ومدينة جبيل، على أن يأخذ برترام مدينة طرابلس حال سقوطها.
ثم سعى بلدوين الأول ملك بيت المقدس في تجميع الجهود الصليبية لإسقاط طرابلس، وبالفعل - وهذه أول مرةٍ منذ زمن - تجتمع جيوش برترام ووليم جوردان مع جيوش بلدوين الأول ملك بيت المقدس وجيوش تانكرد أمير أنطاكية، إضافةً إلى أسطول جنويّ كبير؛ وذلك لإسقاط المدينة العنيدة طرابلس !
ملك القدس بلدوين الأول محاطًا بفرسانه
ووجدت المدينة المسلمة نفسها وحيدة أمام الطوفان، وأحيط بالشعب المسكين، وسرعان ما دارت المفاوضات بين الحامية العبيدية (الفاطمية) وزعماء الجيش الصليبي على تأمين الحامية وإخراجها في سلام، وفتح أبواب المدينة للصليبيين، مع الوعد بصيانة دماء وأعراض المسلمين، ويتكرر بذلك سيناريو الأحداث في بيت المقدس، وكأنَّ الحامية العبيدية ليس لها دور إلا تسليم المدن الإسلامية إلى جيوش الصليبيين !
وخرجت بالفعل الحامية العبيدية في أمان، ودخل الصليبيون إلى مدينة طرابلس في أواخر سنة 503هـ، وتحديدًا في الحادي عشر من ذي الحجة ثاني أيام عيد الأضحى المبارك (1109م) !
غير أن الجيش الصليبي - كما هو متوقع - غدر بالمسلمين فقتل الكثير من أهل المدينة، وأسر بقية الرجال، وتم سبي كل النساء والأطفال، ونهبت الأموال الغزيرة؛ فقد كانت طرابلس من أغنى المدن الإسلامية، وغنم الصليبيون ما لا يحصى من كتب العلم الموقوفة، بل حرق الصليبيون في ميادين طرابلس أعدادًا لا يمكن إحصاؤها من الكتب والمخطوطات !
وبسقوط طرابلس تكون الإمارة الصليبية الرابعة قد تكوَّنت بعد حصار سبع سنوات متصلة، ويكون حلم ريمون الرابع قد تحقق بعد موته، وامتلك المدينة أبنه برترام بن ريمون، لتدخل المدينة فترة عصيبة من تاريخها لم تنتهِ إلا بعد مائعة وثمانين سنة كاملة !!
كهف بانياس الجولان حيث خاطب السيد المسيح بطرس الرسول
ولم تلبث القلاع الإسلامية المتبقية في ساحل الشام أن تساقطت بعد حالة الإحباط المزرية التي أصابت المسلمين ، فسقطت مدينتا بانياس وجبلة في يد تانكرد وضمهما إلى إمارة أنطاكية ، ثم تبعتها بيروت حيث سقطت - بعد حصار 4 أشهر - في يد بلدوين الأول ملك بيت المقدس بمساعدة برترام بن ريمون في سنة (503هـ) مايو 1110م ، وذلك بعد حدوث مذبحة رهيبة في أهل بيروت المسلمين ، وأخيرًا سقطت مدينة صيدا اللبنانية ، وذلك لحساب بلدوين الأول ملك بيت المقدس ، وبمساعدة أسطول بحري بقيادة ملك النرويج شخصيًّا ، وأسطول آخر بندقي بقيادة دوق البندقية نفسه !
وعلى ذلك سقطت كل مدن الساحل الشامي من أنطاكية شمالاً إلى يافا جنوبًا، ولم يبق من كل هذه المدن العديدة إلا صور وعسقلان اللتان تأخر سقوطهما نسبيًّا، وظلتا فترة تحت الحكم العبيدي المصري !
قلعة حلب
أما المدن الداخلية فقد ذاقت هي الأخرى ألوان الذل، وإن لم تقبع تحت الاحتلال المباشر؛ فتانكرد على سبيل المثال حاصر حصن الأثارب غرب حلب - وهو حصن خطير في الطريق بين حلب وأنطاكية، وهو تابع لإمارة حلب - وعرض تانكرد فك الحصار في مقابل دفع رضوان مبلغ ثلاثين ألف دينار، ولكن رضوان لم يكن يريد دفع هذا المبلغ الكبير، ولم يكن يريد قتال تانكرد، فترك حصن الأثارب يسقط وكان ذلك في سنة (504هـ)، وقتل الصليبيون ألفين من رجال المسلمين في داخل الحصن، وأسروا الباقي ! لكن المشكلة الكُبْرَى أن السيطرة على هذا الحصن جعل حلب مهددة طوال الوقت، وتكرر حصارها إلى الدرجة التي آذت أهلها جدًّا، ولم يستطيعوا أن يخرجوا بسهولة إلى مزارعهم وتجارتهم؛ مما دفع الكثير من سكانها إلى الهجرة إلى بغداد وغيرها، وهذا بدوره دفع رضوان إلى عقد صلح مجحف مع تانكرد يتكفل فيه بدفع ثلاثين ألف دينار دون أن يتخلى تانكرد عن حصن الأثارب، بل إن تانكرد أحتل حصنًا آخر هو حصن زردنا، إضافةً إلى إطلاق كل أسرى الصليبيين والأرمن الموجودين في سجون حلب، ومن هنا تدهور الحال جدًّا في حلب.
حصار قلعة شيزر
ومثلما حدث في حلب حدث في شيزر حيث دفع أميرها سلطان بن منقذ الجزية لتانكرد، وكذلك تكرر الأمر في حماة حيث تكفل أميرها علي الكردي بدفع الجزية هو الآخر لتانكرد نظير مسالمته !
وهكذا أصبح تانكرد هو سيد المنطقة الشمالية من الشام، كما أصبح بلدوين الأول هو سيد المنطقة الجنوبية من الشام وكذلك فلسطين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق