الاثنين، 23 يناير 2012

خامس عشر: - وقفات (بعد سقوط بيت المقدس) للعظة والتدبرالفصل الخامس: موقف الغرب ( المسيحية السياسية ) من الإسلام (2) مختصر عن الحروب الصليبية خامس عشر: - وقفات (بعد سقوط بيت المقدس) للعظة والتدبر

 الفصل الخامس:
موقف الغرب ( المسيحية السياسية ) من الإسلام
(2) مختصر عن الحروب الصليبية
خامس عشر: - وقفات (بعد سقوط بيت المقدس) للعظة والتدبر
الآن وبعد سقوط بيت المقدس في قبضة الصليبيين، وبعد مرور أكثر من سنتين على نزول الصليبيين أرض الإسلام نحتاج أن نقف وقفة لتحليل الوضع.لنأخذ مما جرى العظة والعبرة التي قد تنفعنا في فهم الحاضر وتساعدنا في التخطيط للمستقبل  فالأمور أصبحت متشابكة جدًّا، والقوى المتنازعة على حكم الشام وفلسطين وآسيا الصغرى كثيرة، ولا بد من أخذ صورة عامة عن حال كل قوة على الساحة؛ لنفهم التطورات التي سنُقبل عليها في القصة بعد ذلك، وعليه فإننا سنقف هنا عشر وقفات مهمة: الوقفة الأولى: مع حال الإمارات الصليبية التي تكوَّنت في أرض الإسلام، وحال الزعماء الصليبيين الذين قطعوا المسافات لتحقيق أحلامهم التوسعية.
إمارة الرها وما حولها من الدول الأخرى في الشرق الأوسط عام 1135 أول الإمارات تكوينًا كانت إمارة الرها، وتولى قيادتها بلدوين أخو جودفري بوايون، وكانت قاعدتها هي مدينة الرها غرب الفرات، واستطاع بلدوين أن يضم إليها مدينة سُمَيْساط وسروج، وبذلك تكوَّنت الإمارة في شمال الجزيرة، أي المنطقة الواقعة بين دجلة والفرات، وكذلك غرب الفرات
 بلدوين
وهي في تقسيمات الدول الحالية تضم أجزاء من العراق وسوريا وتركيا، وهذه الإمارة كان يغلب على سكانها الأرمن، ولم تكن تدين بالولاء حتى هذه اللحظة للقوات الصليبية ولا للدولة البيزنطية، ولكنها كانت منفصلة مستقلة، وبذلك تحققت فيها أحلام بلدوين.
إمارة أنطاكية
وأمَّا الإمارة الثانية التي تكونت فهي إمارة أنطاكية، وهي مكوَّنة من مدينة أنطاكية في الأساس، وبعض المدن الصغيرة والقرى في شمالها وجنوبها وشرقها، وكان على رأس هذه الإمارة بوهيموند النورماني، وبها غالب الجيش النورماني، وسيطر عليها بوهيموند بعد صراع مع ريمون الرابع كونت تولوز، وكان غالبية السكان من النصارى الكاثوليك وهو جيش بوهيموند والنصارى الأرثوذكس، وكذلك الأرمن الذين يعيشون في هذه المدينة منذ أمدٍ، أما مسلمو المدينة فقد ذُبح أكثرهم، وطُرد الباقي إلى المناطق المجاورة.
وبذلك حقَّق بوهيموند أطماعه هو الآخر، وكوَّن إمارة مستقلة عن القوات الصليبية، وأنكر بوهيموند في الوقت نفسه صلته الحميمة بإمبراطور الدولة البيزنطية ألكسيوس كومنين، ومن ثَمَّ أصبحت إمارة أنطاكية معادية للدولة البيزنطية كما هي معادية للمسلمين.
الإمبراطور البيزنطي ألكسيوس كومنين
ومع أن الإمارتين السابقتين منفصلتان تمامًا عن القوات الصليبية التي أكملت الطريق إلى بيت المقدس، فإنَّ وجودهما كان له أكبر النفع لهذه القوات الصليبية الغازية؛ حيث كانت تقوم بدور عزل القوات السلجوقية عن الجيش الصليبي، ومن ثَمَّ تأمين ظهره أثناء عملية التقدم إلى بيت المقدس، وقد ظلت هاتان الإمارتان - وخاصةً إمارة الرها - تتحملان عبء صدِّ الهجوم القادم من شرق العالم الإسلامي في السنوات اللاحقة.
بعد السقوط الدموي لبيت المقدس توجهت الجحافل الصليبيه لمدينة ارسوف
وثالث الإمارات تكوينًا كانت إمارة بيت المقدس، والتي لن تلبث إلا قليلاً - كما سيتبين لنا - حتى تتحول إلى مملكة متكاملة، فقد قامت على مساحة واسعة نسبيًّا من أرض فلسطين تشمل مدينة القدس ذاتها، إضافةً إلى يافا والرَّمْلة واللُّدِّ، مع عقد معاهدات استسلام مع عكَّا وقَيْسَارِيَة وأُرْسُوف وعَسْقلان، ورأس هذه الإمارة الجديدة جودفري بوايون، وكانت أهم الإمارات، حيث إنها تسيطر على أهم مدينة عند النصارى في العالم، وهي مدينة القدس؛ ولذلك حاول جودفري بوايون أن يجمع في حكمه بين الشكل العلماني الذي يتميز به الملوك والأمراء والشكل الديني الذي يتميز به القساوسة والرهبان، ومن ثَمَّ أطلق على نفسه لقب (حامي بيت المقدس) بدلاً من أمير أو ملك.
قلعة عكا
ومن الجدير بالذكر أن أعداد الصليبيين كانت قد قلت جدًّا، على الرغم من الإمدادات القادمة عن طريق البحر بواسطة السفن الإيطالية، ولم يكن يُؤمِّن كل إمارة إلا عدد محدود من الجنود، وإن كان تعرضهم لهجمات المسلمين كان قليلاً؛ لذعر المسلمين من الصليبيين بوجه عام.
 
الأمير ريمون دي سان جيل الرابع كونت تولوز

أما الزعيم الفرنسي ريمون الرابع فلم يجد له إمارة حتى الآن، ولقد فشلت محاولته في تكوين إمارة خاصة به في أنطاكية ثم في عِرْقَةَ بلبنان، ثم في بيت المقدس ثم في عسقلان، ومن ثَمَّ فقد غادر فلسطين كلها بجيشه وهو غاضب، واتجه ناحية لبنان حيث سيسعى إلى تكوين إمارة هناك حول مدينة طَرابُلُس.
هذا هو حال الجيش الصليبي، ولا شك أنه - على رغم قتل العدد الكبير وهلاكه من الجيش - حقَّق نجاحًا ملحوظًا بتكوين ثلاث إمارات في العالم الإسلامي في غضون سنتين تقريبًا من نزول الأراضي الإسلامية، وما زال راغبًا في التوسُّع والزيادة.
البابا أوربان الثاني وهو يخطب في إجتماع كليرمونت
الوقفة الثانية: مع الكنيسة البابوية في روما لقد دعت الكنيسة في روما لهذه الحروب لتضم إلى أملاكها بيت المقدس، وفيه كنيسة القيامة، ولم تقم بهذه الحملة بهذه الصورة الضخمة من أجل توسيع ممتلكات بوهيموند أو بلدوين أو جودفري أو ريمون الرابع؛ ولذلك أرسلت الكنيسة على رأس الحملة المندوب البابويّ (أدهمار) ليكون زعيمًا لكل الجيوش.
 أدهمار
وقد قام أدهمار بدوره على الوجه الأكمل، وكان صاحب كلمة مسموعة في الجيش غير أنه مات فجأة في (491هـ) أغسطس 1098م في أنطاكية، وبذلك فقدت الكنيسة رجلاً مهمًّا في وقت حرج جدًّا، ووصلت الأنباء متأخرة إلى البابا أوربان الثاني في روما، فأرسل مندوبًا بابويًّا آخر (دايمبرت) رئيس أساقفة بيزا الإيطالية، ولم يكن اختيار دايمبرت راجعًا لحسن سياسته فقط، ولكن لكونه ممثِّلاً لمدينة بيزا القوية؛ مما سيجعل أساطيل بيزا القوية تقف إلى جوار البابا في تنفيذ مشروعه الصليبي الكبير، هذا إضافةً إلى خبرة دايمبرت في التعامل مع هذه الأمور العسكرية، وخاصةً المتعلقة بالمسلمين حيث كان هو المندوب البابوي في الحروب الصليبية التي شنَّها ملك قشتالة الأسبانية النصرانية على المسلمين في الأندلس، هذا على الرغم من السمعة السيئة الأخلاقية وانحراف السلوك الذي كان يشتهر به، ولكن هذا كان أمرًا عامًّا مشتهرًا في الكنائس الأوربية !

اللاذقية وهكذا وصل دايمبرت على رأس أسطول بيزيٍّ مكوَّن من مائة وعشرين سفينة في (492هـ) صيف 1099م إلى ميناء اللاذقية في الشام، محاولاً الوصول قبل سقوط بيت المقدس ليسيطر على الأمور قبل جمع الملوك والأمراء، غير أنه وصل بعد احتلال الصليبيين لبيت المقدس وولاية جودفري عليه، ومن ثَمَّ انطلق إلى بوهيموند أمير أنطاكية القريبة من اللاَّذِقِيَّة، وذلك للتفاهم معه حول الشأن الجديد في بلاد الشام، مع العلم أن البابا أوربان الثاني مات بعد أسبوعين من سقوط بيت المقدس، وتولى من بعده باسكال الثاني كما مرَّ بنا. البابا باسكال الثاني
فهل تترك الكنيسة البابوية بيت المقدس يسقط في يد جودفري، أم تسعى الكنيسة للسيطرة عليه ؟! سؤال سوف تجيب عنه الأيام القادمة.
حدود الإمبراطورية البيزنطية سنة 1081. ألكسيوس الأول كومنين
الوقفة الثالثة: مع الدولة البيزنطية.
كانت الدولة البيزنطية تهدف من وراء الاستنجاد بالغرب الكاثوليكي أن تأتي الجيوش الأوربية كمرتزقة يهاجمون السلاجقة المسلمين، ويستردون المدن البيزنطية لصالح الإمبراطورية البيزنطية في مقابل الأسلاب والغنائم، أو في مقابل الأموال والعطايا كما هو معتاد مع المرتزقة، ولم يكن الإمبراطور ألكسيوس كومنين يتوقع أن تأتي الجيوش الأوربية بهذه الكثافة، ولا بهذه الأطماع والأحلام؛ لذلك فُجعت الدولة البيزنطية من الوضع الجديد، وبدأت تصطدم مع الواقع الذي لم تحسب له حسابًا، إذ كان من الواضح أن هذه الجيوش جاءت لتبقى وتعيش، لا لتقاتل وترحل، وصار هذا الأمر صريحًا عند احتلال الرها وأنطاكية ثم بيت المقدس، ثم إنها بدأت تخسر الزعماء الصليبيين واحدًا بعد الآخر، ولم يعد هناك من لا يزال على العهد والصداقة إلا ريمون الرابع، والذي شعر أن آماله في التملُّك بدأت تتحطم في المشرق الإسلامي، وأن أمله الوحيد في مصادقة الإمبراطور البيزنطي؛ لعله يساعده في تكوين إمارة خاصة به.

السلطان قلج أرسلان
ومع هذا الوضع غير المتوقع للدولة البيزنطية فإنها استطاعت أن تضم حتى الآن كل المدن الواقعة في غرب آسيا الصغرى على ساحل بحر مرمرة الشرقي، كما أنها تسلمت المدينة الحصينة نيقية عاصمة قلج أرسلان زعيم السلاجقة، ثم تسلمت بعدها عدة مدن متتالية مثل قونية وهرقلة وغيرها، ومع ذلك فوجودها في هذه المناطق ما زال ضعيفًا؛ لأنها غير مطمئنة للسلاجقة المنتشرين في وسط آسيا الصغرى وشرقها وجنوبها.

شاطئ بحر مرمرة
ولا شك أن الدولة البيزنطية لن تسلم بسهولة بضياع المدن البيزنطية العريقة مثل أنطاكية وطرسوس واللاذقية وغيرها، كما أنها - لا شك - تحلم ببيت المقدس الذي فقدته من أيام عمر بن الخطاب منذ أكثر من أربعمائة وسبعين سنة كاملة.
الدول الإسلامية المتعددة التي نشأت بعد ضعف الدولة العباسيّة وزوال هيبة الخلافة في بغداد   
الوقفة الرابعة: مع الخليفة العباسي.
كان الخليفة في ذلك الوقت لا يملك من أمره شيئًا، وإن كان يحمل اللقب الكبير لقب خليفة المسلمين عامًة لكنه كان تحت السيطرة السلجوقية التامة، وكانت جيوشه شرفيَّة لا تستطيع أن تصد هجومًا أو ترفع راية أو تحرر أرضًا، ومن ثَمَّ فقد قابل أنباء الاحتلال الصليبي بشيء من البرود يعبر عن حالة الضعف الشديدة التي كان يعاني منها، ولم يكلف نفسه أن يشير على سلطان السلاجقة بمقاومة هذا الاحتلال العنيف، ولعله كان مطمئنًا إلى وضعه الآمن في بغداد بعيدًا عن ساحل الشام الذي يتعرض للهجمة الصليبية، وقد كان خليفة المسلمين في هذا الوقت هو المستظهر بالله، وإن كانت هذه معلومة غير مهمة؛ فأسماء الخلفاء في هذه الفترة لم تكن تعني أي شيء ولا أي قيمة!، والذي حكم من سنة (487 إلى 512هـ\ 1094 إلى 1118م)، وكان يبلغ من العمر عند ولايته ستة عشر عامًا .

بعد وفاة السلطان ملكشاه تفككت الدولة السلجوقية
الوقفة الخامسة: مع سلطان السلاجقة العظام, بركياروق بن ملكشاه !والسلاجقة العظام - كما مرَّ بنا - هم السلاجقة الذين يحكمون فارس وما حولها، وكذلك يهيمنون على الخلافة العباسية والعراق بالتبعية، وهم أقوى السلاجقة جميعًا، ولعلهم أقوى قوة إسلامية في ذلك الوقت.
  كيقباد الأول وهو علاءالدين كيقباد بن كيكاوس وهو سلطان سلاجقة الروم

ومع كونهم في هذه القوة فإنهم لم يحرِّكوا ساكنًا لهذه الأحداث الساخنة التي تدور في أرض الشام، اللهم إلا الجيش الهزيل الذي قاده كربوغا أمير الموصل بتوجيهٍ من بركياروق سلطان السلاجقة الأكبر، ولماذا لم يتحرك السلاجقة العظام لهذه الأزمة الخطيرة، مع أن لهم تاريخًا مشرفًا في حرب الدولة البيزنطية قبل ذلك، وخاصةً في زمان جدهم العظيم حقًّا ألب أرسلان؟!
السلطان ألب أرسلان
لعله من المناسب  أن ندرك الإجابة على هذا السؤال أن نرجع قليلاً عدة سنوات لنعرف خلفيات العلاقة بين بركياروق سلطان السلاجقة في فارس والعراق، وبين سلاجقة الروم حين دخلت القوات الصليبية.
رسم للسلطان ملكشاة
لقد ترك ألب أرسلان بعد وفاته عدة أولاد، فحكم ابنه الأكبر ملكشاه دولة السلاجقة العظام، ووصلت دولته في زمان مجدها إلى حدود الصين شرقًا وإلى الشام غربًا، كما حكم ابنه الآخر تتش معظم الشام، وكان راغبًا في توسيع ملكه غير أنه كان يخشى أخاه الأقوى ملكشاه، ولكن عند وفاة ملكشاه في سنة (484هـ) 1092م خلفه ابنه بركياروق على حكم دولة السلاجقة العظام، وكان بركياروق صغيرًا في السن لم يبلغ الخامسة عشرة من عمره؛ مما أطمع عمه تتش في ملكه، مما أدى إلى استغلاله لحالة الفوضى الناتجة عن وفاة أخيه ملكشاه، ومن ثَمَّ تحرك بجيشه لإخضاع حلب تحت حكمه، بل ومحاولة الاستحواذ على مدن أخرى من ملك بركياروق ابن أخيه، وكانت حلب تحت قيادة آقْ سُنْقُر الحاجب، وكان مواليًا لبركياروق، لكنه اضطر للرضوخ لتتش لفرط قوته ولضعف بركياروق، ومن ثَمَّ انضم إليه ظاهريًّا، وسار معه هو وياغي سيان حاكم أنطاكية المسلم، وكذلك بوزان حاكم الرها المسلم، وكل هذه كانت مدنًا تابعة لملكشاه قبل وفاته، وتحرك هذا الجيش المركَّب جنوب فارس ليقاتل بركياروق في سلطنته، وذلك في سنة (485هـ) 1093م، وكاد تتش يُحقِّق ما أراد، لولا أن آق سنقر وياغي سيان تخليا عن تتش في هذه اللحظة، وانضما إلى سلطانهما الأول بركياروق، فتحطمت خطة تتش وعاد مسرعًا إلى دمشق، وعاد آق سنقر لحكم حلب وبوزان لحكم الرها، غير أنه في سنة (486هـ) 1094م، أعاد تتش هجومه على حلب، فقاتله آق سنقر متحدًا مع بوزان، إلا أنه هذه المرة انتصر تتش وقتل على الفور آق سنقر وبوزان، ودانت له السيطرة على حلب ودمشق ومعظم الشام.

تاج الدولة تتش بن ألب أرسلان
وفي سنة (487هـ)1095م - قبل الحروب الصليبية بسنتين فقط - تحرك تتش بقواته من جديد لقتال ابن أخيه بركياروق، ووقع القتال فعلاً بالقرب من الرَّيِّ في فارس، ولكن في هذه المرة لم يُهزم تتش فقط، بل وقتل في أثناء المعركة !
ومع كونه قُتل إلا أن بركياروق اكتفى بحكم فارس والعراق ولم يحاول ضم بلاد الشام إليه، فتقاسم حكمَها ولدا تتش؛ وهما رضوان بن تتش على إمارة حلب، ودقاق بن تتش على إمارة دمشق.

الدولة السلجوقية في أقصى اتساعها عام 1092، بعد وفاة السلطان جلال الدولة ملك شاه
وهكذا يتضح لنا أن بركياروق هو ابن عم زعماء حلب ودمشق، لم يكن مجرد ابن عم مخاصم أو كاره لسياستهما، بل كان مقاتلاً وقاتلاً لأبيهما، وهو يرى - ونحن نرى معه كذلك - أن أطماع تتش كانت متجاوزة الحد، وأنه لم يرع حرمة أخيه ملكشاه، ولا حرمة أبيه العظيم ألب أرسلان، ولا حرمة الشعوب المسلمة التي تزهق أرواحها في حروبه، ولا حرمة الدين الإسلامي الذي يحُرم مثل هذا القتال النفعي الذي يثير الفتنة في بلاد الإسلام. وهذا بالطبع يفسر لنا عدم حماسة بركياروق في نجدة بلاد الشام عند دخول الصليبيين, هذا من جانب..
ومن جانب آخر فإنه قد حدثت ثورات أخرى، ومشاكل ضخمة في إقليم فارس والعراق، حيث قام أخو بركياروق وهو محمد بن ملكشاه بثورة على أخيه يطالب فيها بجزء من المملكة، ودارت صراعات طويلة بين الجانبين استمرت عدة سنوات، ولا شك أن هذه الثورات والصراعات شغلت بركياروق وأخاه محمد عن مشاكل المسلمين في أرض الشام وفلسطين.
إن الأمة في ذلك الوقت صارت كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثًا، فبعد القوة البالغة في زمان ألب أرسلان، وبعد الانتشار المهيب في زمان ملكشاه بن ألب أرسلان، وصلنا إلى تلك الحالة التي وصفنا، ولقد جنيناه على أنفسنا، وما جاناه علينا أحد !!

الدولة الفاطمية
الوقفة السادسة: مع الخليفة العبيدي (الفاطمي) بالقاهرة.
كان الخليفة العبيدي في ذلك الوقت هو المستعلي بالله، وكان مثل غيره من الخلفاء العبيديين إسماعيلي المذهب، شديد التطرف في معتقده، حاقدًا على أهل السنة، يعتبرهم العدو الأساسي له، لا يمانع في سبيل عداوتهم من أن يضع يده في أيدي الصليبيين أو غيرهم من أعداء الأمة، ولقد رأينا سفارتين منه إلى الصليبيين تعرضان عليه التعاون لتقسيم الشام السني بينهما، غير أنَّ هذه السفارات لم تفلح؛ لأن الصليبيين كانوا يريدون الشام كله لهم، وخاصةً بيت المقدس الذي يطمع في حكمه العبيديون، ورأينا كيف أخرج الصليبيون العبيديين من بيت المقدس دون مقاومة تذكر.
معركة عسقلان بين الصليبيين والفاطميين
ومع ذلك فالعبيديون ما زالوا يسيطرون على عدة مدن على ساحل الشام وفلسطين منها عسقلان وعكا وبيروت وصور، وبعض هذه المدن دخل في معاهدة مع الصليبيين كعكا وعسقلان، والآخر ما زال يدرس الأوضاع، لكن هل ستسكت الدولة العبيدية على ضياع جزء كبير من ممتلكاتها مثل فلسطين؟ وهل ستترك عدوًا قويًّا كالصليبيين على الحدود الشرقية لمعقلها الأخير في العالم وهو دولة مصر؟ إن هذا سؤال ستتحدد إجابته في خلال الشهور والسنوات المقبلة.
ولعله من الضروري أن نعرف أن مقاليد الحكم الحقيقية في الدولة المصرية آنذاك، لم تكن في يد الخليفة نفسه، ولكنها كانت في يد الوزير القوي الأفضل بن بدر الجمالي، كما ينبغي أن نعرف أن جيش العبيديين الرئيسي كان معتمدًا على المغاربة الذين أتوا مع الجيوش الأولى التي احتلت مصر سنة (358هـ) 969م، وأيضًا على الجنود القادمين من السودان وغيرها من البلاد البعيدة، ولم يكن بجيشهم عدد يذكر من المصريين؛ لأن المصريين - على الرغم من حكمهم بالشيعة فترة طويلة من الزمان تجاوزت حتى زمن الحروب الصليبية - لم يتشيعوا مطلقًا، وظلوا محتفظين بطابعهم السني على الرغم من قهر العبيديين لهم .
وهكذا خرجت قلعة عظيمة من قلاع الإسلام وهي مصر من معادلة القوى المؤثرة في الأحداث؛ حيث قاد دفَّة الأمور فيها من لا يرجو رفعة، ولا عزًّا إلا لنفسه فقط، ومن لا يضع أحلام الأمة وأمنياتها في حساباته ولا قدر أنملة
قلعة حلب، مركز حكم الحمدانيين 
الوقفة السابعة: مع حكام المسلمين في منطقة الشام.
كان الشام مقسمًا في ذلك الوقت - بلا مبالغة - إلى عشرات الإمارات، وعلى كل إمارة زعيم يعتقد أنه محور العالم، ويُصوِّره إعلامه على أنه الرجل الأوحد الحكيم الذي لم يتكرر في التاريخ، والذي لم - ولن - تنجب البلاد مثله!! لقد كانوا في تمثيلية وهميَّة خدعوا بها أنفسهم، وخدعوا بها شعوبهم، ثم جاءت الحملة الصليبية لتكشف للجميع زيف هذه الزعامات الفارغة.
ولم يكن من همِّ هؤلاء الأمراء والملوك إلا الحفاظ على كراسيهم وأملاكهم، وعلى هذا فلم يكن يعنيهم من قريب ولا بعيد أمر الصليبيين إذا احتلوا الشام بكامله وتركوهم دون أذى، وعليه فلم يتحرك هؤلاء إلا عندما شعروا بالخطر يتهددهم هم شخصيًّا، وحتى عندما تحرَّكُوا تحركوا بمعاهدة مخزية أو بحرب فاشلة أو بهروب فاضح !!
قلعة دمشق
وكان أهم ملوك الشام - في ذلك الوقت - رجلين هما: ملك دمشق دقاق بن تتش، وملك حلب رضوان بن تتش، وكانا شخصيتين نفعيتين بعيدتين كل البعد عن السلوك الإسلامي، ولم يكن الأمر يقف عند هذا الحد، بل كانا - مع أنهما أشقاء - في حرب مستمرة وعداء مُطَّرد، وكأنهما ورثا قطيعة الرحم وغياب الرؤية من أبيهما تتش بن أرسلان؛ ولهذا لم يكن هناك من سبيل لتوحيد جهود حلب ودمشق لمقاومة الغزو الصليبي.

اسماعيل الصفوي
وفوق هذه المأساة التي كان يعيشها هذان الحاكمان وغيرهما، فإن رضوان بن تتش كان يعيش مأساة أخرى من طراز أشنع؛ فقد رأى رضوان بن تتش أن القوى من حوله تتكاثر وهو ضعيف؛ لذلك فكر في وسيلة يُقوِّي بها مركزه، فقرر التعاون مع الدولة العبيدية في مصر، ولم يكتفِ مع مرور الوقت بالتعاون معهم بل صار من دعاتهم، ومن الذين يتبنَّون الفكر الشيعي الإسماعيلي، ومن ثَمَّ عيَّن دعاة الإسماعيلية في حلب في المناصب الكبيرة، وصار لهم في حلب جاهٌ عظيم وقدرة فائقة، وأصبح زعيم الباطنية الإسماعيلية في حلب - وهو الحكيم المنجم - مقربًا جدًّا من رضوان، وأثار هذا استياء عامة قواد وأمراء السلاجقة في كل مكان؛ لأن السلاجقة سُنَّة منذ إسلامهم، بل ويتولون الدفاع عن المذهب السني في كثير من المواقف في حياتهم، وهم الذين أنقذوا الخلافة العباسية قبل ذلك في سنة (447هـ) 1055م من الحكم البويهيِّ الشيعي؛ لذلك كان مستغربًا من رضوان جدًّا أن يأخذ هذا التوجُّه الذي يدل على شخصية نفعيَّة بحتة، لا تبحث إلا عن مصالحها بدون النظر إلى أي اعتبارات أخرى.
فارس بويهي

كانت هذه هي طبيعة حُكَّام المنطقة إبَّان دخول القوات الصليبية في الشام.

حصار نيقية
الوقفة الثامنة: مع قلج أرسلان وسلاجقة الروم
لقد مرَّ بنا الغزو الصليبي لآسيا الصغرى في بادئ الأمر، وقتال السلاجقة وعلى رأسهم سلطانهم قلج أرسلان، وإسقاط عاصمتهم نيقية وغيرها من المدن، غير أن هذا الصدام من الصليبيين لم يكن بهدف احتلال آسيا الصغرى، إنما كان مجرد تصفية للقوى التي تواجه الجيوش في طريقها إلى الشام، وهذا تدبير خبيث من الإمبراطور البيزنطي ألكسيوس كومنين، الذي أراد أن تسلك القوات الصليبية هذا الطريق لتقضي على العدو التقليدي للدولة البيزنطية في ذلك الوقت وهم السلاجقة، وبذلك تسترد الإمبراطورية مدنها القديمة، وكان من الممكن للدولة البيزنطية - لو أرادت - أن تنقل الجيوش الصليبية بأساطيلها الضخمة إلى سواحل الشام القريبة من بيت المقدس مثل يافا أو عسقلان أو حيفا، لكنَّ كل فريق - كما هو واضح - يبحث عن غاياته وأهدافه.
معركة دوريليوم التي حسمت الصراع السلجوقي-الصليبي في الأناضول وتساقطت بعدها المدن السلجوقية في أيدي الصليبيين
ولذلك - على الرغم من المعارك العنيفة التي دارت في آسيا الصغرى، وأهمها معركتا نيقية ودوريليوم - فإن القوات الصليبية لم تشأ أن تمكث في أراضي آسيا الصغرى، وخاصةً أن هذه الأراضي ذات طبيعة جغرافية صعبة، تجعل السيطرة عليها مهمة شاقة، كما أنها قريبة من الإمبراطورية البيزنطية صاحبة الأطماع، إضافةً إلى أن القوات الصليبية فَقَدت في هذه المعارك، وفي أثناء الطريق إلى أنطاكية عددًا كبيرًا من جنودها، مما جعل إبقاء حاميات صليبية في هذه المدن الكثيرة أمرًا في غاية الخطورة.
لكل هذا قررت الجيوش الصليبية أن تسحب قواتها من آسيا الصغرى، ولا تسعى للتوسع فيها، اللهم إلا في المدن القريبة من إمارتي أنطاكية والرُّها المجاورتين لآسيا الصغرى، ولهذا بعد فترة قصيرة من الحروب الصليبية خلت منطقة آسيا الصغرى من أي وجود صليبي، وأصبحت السيطرة على هذه المناطق موزعة بين الدولة البيزنطية في الغرب والشمال، وبين السلاجقة في الوسط والشرق.
ولهذا فعلى الرغم من الهزائم المُرَّة التي تلقاها سلاجقة الروم على يد الصليبيين فإنهم لم يفقدوا وجودهم ولا أعدادهم؛ غاية الأمر ضياع غرب آسيا الصغرى، ومجموعة من قلاع الوسط، أما جيوشهم وشعوبهم فكانت موجودة في أماكن مختلفة من هذه المناطق، مستغلةً الطبيعة الجبلية الوعرة لآسيا الصغرى بصفة عامة.
قلج أرسلان الثاني وهو عز الدين قلج أرسلان بن مسعود سلطان سلجوقي لسلاجقة الروم
وكان على رأس السلاجقة في هذه المناطق سلطانهم قلج أرسلان الذي خسر الكثير في صدامه مع الصليبيين، ولكنه - لا شك - سيظل يبحث عن ملكه الضائع، وعن ثروته التي بُددت،ولم يكن قلج أرسلان ولا السلاجقة هم القوة الإسلامية الوحيدة في آسيا الصغرى، ولكن كان هناك - كما فصَّلنا قبل ذلك - بيت بني الدانشمند، والذين كانوا يسيطرون على الشمال الشرقي، وكانوا دومًا في نزاع مع السلاجقة، ولم يتحدوا معهم إلا مؤقتًا عند دخول الصليبيين، ثم عادت العلاقة للتوتر بعد ذلك كما هو متوقع.
ماذا سيكون ردُّ فعل قلج أرسلان وقبائل الدانشمند على الأوضاع الجديدة؟ وكيف سيكون الوضع في آسيا الصغرى؟ هذا سؤال يحتاج إلى إجابة !

القسطنطينية
الوقفة التاسعة: مع نصارى الشام وآسيا الصغرى.
توجد أعداد كبيرة من النصارى في منطقة الشام وفلسطين، وكذلك في آسيا الصغرى، ومجرد وجود هذه الأعداد الكبيرة دليل على سماحة الإسلام وعدله، فعلى الرغم من مرور خمسة قرون على الحكم الإسلامي فإنَّ هؤلاء المخالفين لدين الإسلام ما زالوا يعيشون في البلاد دون قتل أو طرد مثلما اعتاد الصليبيون أن يفعلوا بنا في البلاد المحتلة في الأندلس، هذا فضلاً عن الشهادات المنصفة التي تشهد للمسلمين بهذا العدل على مرِّ العصور.
وغالبية نصارى الشام ينتمون إلى الطائفة الأرثوذكسية, ويتبعون معقل الأرثوذكسية الأول في العالم، وهو مدينة القسطنطينية عاصمة الإمبراطورية البيزنطية، وهذا - لا شك - جعل ولاءَهم السياسي والعسكري والديني في المقام الأول لهذه الإمبراطورية، غير أن هؤلاء النصارى فرحوا جدًّا بالغزو الصليبي، ومهَّدوا له الطريق بكل وسيلة لأنهم في النهاية مسيحيون، إضافةً إلى أن الإمارات والممالك الصليبية كانت تعتمد على هؤلاء النصارى في معظم الأعمال؛ لأنها كانت لا تُبقِي المسلمين في داخل إماراتهم، ولهذا صار للنصارى وضع يدفع إلى رغبتهم في استمرار الحال على ما هو عليه، كل هذا مع كون النصارى الأرثوذكس على خلاف كبير مع المذهب الكاثوليكي، لكن الصليبيين كانوا من الذكاء في أنهم لم يثيروا هذه القضية، غاية الأمر أنهم كانوا يُقلبون الكنائس الكبرى إلى كاثوليكية، لكن يتركون كل نصراني على عقيدته الخاصة.

بيوت مجزرة الأرمن
أما غالبية نصارى آسيا الصغرى فكانوا من الأرمن، وهؤلاء - على عكس نصارى الشام - لم تكن أحلامهم تقتصر على مجرد رغد العيش أو فرصة العمل، ولكنهم كانوا يريدون دولة وسيادة، وهم قد عاشوا فترة طويلة في تبعية الدولة البيزنطية، ثم بعدها في تبعية السلاجقة، وهم يتبعون كنيسة خاصة بهم أقرب إلى الكاثوليكية، وإن كانت مستقلة، وأعدادهم كانت كبيرة، ولهم تاريخ بالمنطقة، ولهم لغة خاصة بهم؛ لكل هذا لم تقف رغبتهم عند مجرد التبعية لأحد، ولهذا تجمعوا في معظمهم في جنوب شرق آسيا الصغرى، وخاصة في إقليم قليقية كما مر بنا، وهم سعدوا بالحروب الصليبية لأنهم رأوا فيها - بدايةً - خلاصًا من السلاجقة المسلمين، وأيضًا خلاصًا من الدولة البيزنطية والأرثوذكسية المخالفة لهم في العقيدة؛ ولذلك أحسنوا استقبال الصليبيين واعتبروهم محرِّرين لهم، وإن كانوا لم يذوقوا بعدُ طريقة الحكم الأوربي، والتي تعتمد في الأساس على النظام الإقطاعي الاستعبادي؛ ولذلك فسنرى بعد ذلك كيف سيكون التعامل على ضوء المعطيات الجديدة.

القديس ميسروب ماشدوتس موجد الأبجدية الأرمنية
كما أن بعض الأرمن استغلوا سوء الأوضاع السياسي، وانشغال السلاجقة والبيزنطيين والصليبيين في الحروب المستمرة، واستقلَّ ببعض المدن، وخاصةً الموجودة في الجبال الجنوبية الشرقية في آسيا الصغرى، ليؤسس شبه إمارة تعتمد كليًّا على الأرمن، ومن هؤلاء على سبيل المثال كوغ باسيل الأرمني الذي أسس إمارة أرمنية خالصة قوية، كان مركزها في الأساس مدينتي كيسوم ورعبان، وازداد نفوذه واتسع لدرجة أقلقت الصليبيين أنفسهم.

الأرمن محافظون وفي الأغلب يتزوجون من نفس طائفتهم للحفاظ على الهوية الأرمن
ومن المعلوم أن غالب سكان إمارة الرها في أول نشأتها كانوا من الأرمن، ولا شك أن هذا سيكون له أثر على سير الأحداث في الأيام المقبلة.
الوقفة العاشرة والأخيرة: مع الشعوب المسلمة !
يتجه كثير من المؤرخين دائمًا باللوم الكامل على طائفة الحكام والسياسيين، ولا يعلق - لا من قريب ولا من بعيد - على الشعوب التي تعيش تحت حكمهم، ولا شك أن دور الحكام كبير ومؤثر، ولا شك أيضًا أن الشعوب من المسئولية تجاه الأحداث المؤسفة التي شهدتها المنطقة في هذه الحقبة من الزمان.
فالحكام إفراز طبيعي للشعوب، وكما يقول رسول الله: "كَمَا تَكُونُوا يُوَلَّى عَلَيْكُمْ"؛ فالشعب الصالح يُقيِّض له الله رجلاً صالحًا، والشعب المجاهد ييسر له رب العالمين قائدًا مجاهدًا، أما الشعب الخانع الضعيف الراغب في مجرد الحصول على لقمة العيش أو على وظيفة طيبة، فإنه يُبتلى بحاكم ظالم يُضيِّع عليه الدنيا والدين. إن الحاكم لا يستمد قوته حقيقةً إلا من شعبه، وإلا فمن هو الحاكم بدون شعبه؟ منُ الحاكم بدون جيشٍ ووزارات وسفارات ومصالح حكومية وموظفين وعمال وتجار وغيرهم ؟ من هو الحاكم إذا تخلى عنه كل هؤلاء؟ ثم من الذي فرض على الشعب أن يسير وراء حاكمٍ بائع لدينه ووطنه، ومبدلٍ لشرع الله قادح فيه؟ أهو السيف والسوط فقط ؟! ألم يعلم هذا الشعب أن الأجل لا ينقص ساعة، وأن الرزق لا يقل درهمًا عما قدَّره رب السموات والأرض؟! إن هذه بديهيات لا تغيب عن ذهن شعب واعٍ فاهم، وهذه ليست بديهيات مستحيلة، فكثير من شعوب الأرض على اختلاف مللهم وعقائدهم فَهِمُوا هذه البديهيات فعاشوا حياة كريمة، أفلا يفهمها المسلمون الذين أنعم الله عليهم بقرآن وسنة ؟!
إننا لا يجب أن نعفي الشعوب التي رضيت برضوان ودقاق وغيرهما من الزعامات التافهة التي خربت البلاد، وظلمت العباد، وفتحت الطريق لألد أعداء الأمة ليسيطروا على مقدراتنا دون عناء، ولا يجب أن نعفي الشعوب التي رضيت بالحكم الصليبي في مقابل أن يسمح لهم أن يعيشوا بضع ساعات أكثر، ولا يجب أن نعفي الشعوب التي ما زالت تتعامل بالبيع والشراء مع عدو سفك دمها واستحل أرضها وأحرق مساجدها ونهب ثرواتها، كما لا يجب أبدًا أن نعفي الشعوب التي مسحت من قاموسها كلمة (الجهاد)، حتى في أحرج المواقف التي تحتل فيها البلاد، ويصبح الجهاد فرض عين على كل المسلمين، بل إن كل شرائع العالم السماوية والوضعية لا تنكر على شعب احتلت أرضه أن يقاوم ويقاتل ويجاهد، فكيف بشعبٍ مسلم جعل له الجهاد ذروة سنام دينه ؟!
إن هذا الكلام ليس قاسيًّا أبدًا، بل هو واقعي تمامًا، وسنرى أنه يوم تدرك الشعوب دورها، وتتحرك طالبة من حاكمها إما أن يجاهد لرفع الظلم، وإما أن يترك المسئولية لغيره ليصلح الأوضاع، حين نرى هذا اليوم ستتغير الأوضاع، وتتبدل الأحوال، ويرفع الظلم، ويُمحى الذل، ويبدأ الشعب في الوصول إلى ما يجب أن يصل إليه .
ويمكن أن نجمل ما تقدم في النقاط التالية

أولاً: تكونت ثلاثة إمارات صليبية هي الرها وأنطاكية وبيت المقدس، وما زال ريمون الرابع يبحث له عن إمارة.
ثانيًا : أرسلت الكنيسة في روما أسقف بيزا دايمبرت ليحاول فرض سيطرة الكنيسة على بيت المقدس .
رابعًا:استطاعت الدولة البيزنطية أن تسترد غرب آسيا الصغرى، ولكنها فقدت أنطاكية والرها وبيت المقدس، ولا شك أنها لن ترضى بهذا الوضع.
رابعًا : الخليفة العباسي ضعيف جدًّا ، ولا يُرجى منه تغيير الوضع المتأزم .
خامسًا: السلطان بركياروق سلطان السلاجقة في فارس مشغول بالفتن الداخلية في دولته، فضلاً عن خلافه العميق مع أمراء الشام.
سادسًا: الخليفة العبيدي في القاهرة له أطماعه الخاصة في بيت المقدس وفلسطين، وإن لم تكن له القدرة الكاملة على مواجهة الصليبيين.
ثامنًا:حكام الإمارات الإسلامية في منطقة الشام ضعفاء جدًّا من الناحيتين الإيمانية والإدارية على حد سواء، ومن ثَمَّ فهم لم يكونوا على قدر الأزمة التي عصفت بالأمة في هذه الآونة.
ثامنًا : سلاجقة الروم بزعامة قلج أرسلان ما زالوا في آسيا الصغرى، وما زالوا أيضًا يبحثون عن وجود لدولتهم، وإن كانوا منعزلين تمام الانعزال عن مشكلة الشام .
تاسعا:النصارى الأرثوذكس يرحبون بالصليبيين، وكذلك الأرمن، وإن كان الأرمن لهم أطماع استقلالية، وخاصةً في الجنوب الشرقي لآسيا الصغرى.
عاشرًا : الشعوب المسلمة في المناطق المحتلة وغيرها كانت راضيةً بالوضع لحرصها على أي حياة، ولم يكن طموحها يرقى إلى معاني الجهاد والبذل والتضحية .
هذا هو الوضع بعد سقوط بيت المقدس، وفي أخريات القرن الحادي عشر الميلادي (آخر الخامس الهجري)، وتحديدًا في (رمضان 492هـ) أخريات يوليو 1099م 
فبالله عليكم هل تختلف الصورة كثيرا في حاضرنا عن ماضينا

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق