الفصل الخامس:
موقف الغرب (المسيحية السياسية)
من الإسلام
(2) مختصر عت الحروب الصليبية
ثامن عشر: العالم الإسلامي قبل الحملة
الصليبية الثانية
(4) العبرة والعظة:
لقد مرت ثلاث عشرة سنة على الاحتلال الصليبي للأراضي الإسلامية، ونحتاج
إلى وقفة لتدبر الوضع بعد أن
تبلورت صورته إلى حد كبير، ولنأخذ بعض العِبَر
من الموقف، ونستقرأ المستقبل الذي ستئول إليه الأحداث.
أولاً: أخذت الإمارات الصليبية بعد هذه السنوات الثلاث عشرة شكلها النهائي ولن يكون التغيير بعد ذلك ولمدة عشرات السنوات كبيرًا، ونستطيع أن نجعل الصورة النهائية للوضع كما يلي
أولاً: أخذت الإمارات الصليبية بعد هذه السنوات الثلاث عشرة شكلها النهائي ولن يكون التغيير بعد ذلك ولمدة عشرات السنوات كبيرًا، ونستطيع أن نجعل الصورة النهائية للوضع كما يلي
حدود مملكة بيت المقدس سنة 1160
-1- تكونت في أرض فلسطين وأجزاء من لبنان مملكة بيت المقدس الصليبية، وهي الوحيدة التي أطلق عليها لقب مملكة، وهذا يدل على أنها غير تابعة لغيرها بينما يتبعها الآخرون؛ وهذا هو الواقع الفعلي الذي رأيناه بعد ذلك، فإنه وإن تمتعت كل إمارة صليبية باستقلال ذاتي إلا أن الكلمة الأولى في شئون الصليبيين كانت لمملكة بيت المقدس، وكانت هذه المملكة تحت حكم بلدوين الأول الفرنسي، وأخذت طابعًا فرنسيًّا بحتًا، مما جعل المسلمين يطلقون على كل الصليبيين لفظ الفرنجة أو الفرنج أو الإفرنج، وكلها تعني الفرنسيين، وهذا لمكانة مملكة بيت المقدس بالنسبة لغيرها من الإمارات، وكانت حدود مملكة بيت المقدس في سنة (504هـ) 1110م تمتد من بيروت شمالاً إلى يافا جنوبًا، وتصل في العمق إلى مدينة القدس في فلسطين، وهي بذلك تضم عدة مدن في غاية الأهمية مثل: بيروت وصيدا وعكا وحيفا ويافا واللد والرملة، وأهم من كل ذلك القدس الشريف، وسوف تتوسع هذه المملكة مستقبلاً حتى تضم أيضًا صور وعسقلان، إضافةً إلى صحراء النقب كما سنرى في الصفحات القادمة
-1- تكونت في أرض فلسطين وأجزاء من لبنان مملكة بيت المقدس الصليبية، وهي الوحيدة التي أطلق عليها لقب مملكة، وهذا يدل على أنها غير تابعة لغيرها بينما يتبعها الآخرون؛ وهذا هو الواقع الفعلي الذي رأيناه بعد ذلك، فإنه وإن تمتعت كل إمارة صليبية باستقلال ذاتي إلا أن الكلمة الأولى في شئون الصليبيين كانت لمملكة بيت المقدس، وكانت هذه المملكة تحت حكم بلدوين الأول الفرنسي، وأخذت طابعًا فرنسيًّا بحتًا، مما جعل المسلمين يطلقون على كل الصليبيين لفظ الفرنجة أو الفرنج أو الإفرنج، وكلها تعني الفرنسيين، وهذا لمكانة مملكة بيت المقدس بالنسبة لغيرها من الإمارات، وكانت حدود مملكة بيت المقدس في سنة (504هـ) 1110م تمتد من بيروت شمالاً إلى يافا جنوبًا، وتصل في العمق إلى مدينة القدس في فلسطين، وهي بذلك تضم عدة مدن في غاية الأهمية مثل: بيروت وصيدا وعكا وحيفا ويافا واللد والرملة، وأهم من كل ذلك القدس الشريف، وسوف تتوسع هذه المملكة مستقبلاً حتى تضم أيضًا صور وعسقلان، إضافةً إلى صحراء النقب كما سنرى في الصفحات القادمة
إمارة طرابلس الصليبيه
-2-الإمارة الثانية للصليبيين هي إمارة طرابلس التي تكونت حديثًا سنة (503هـ) 1109م ، وكان على رأسها الأمير برترام بن ريمون ، وكانت هذه الإمارة في بادئ الأمر منقسمة على نفسها كما بينا ، حيث كانت طرابلس والجبيل في يد برترام بن ريمون ، وعرقة وطرطوس في يد وليم جوردان ، غير أن وليم جوردان قُتل - كما يقولون - في ظروف غامضة !
اللورد برترام إبن الأمير ريمون دي سان جيل
ولا يستبعد أن الذي أوعز بقتله هو برترام بن ريمون ليخلو له الجو في الإمارة، وبالفعل تكونت إمارة طرابلس الموحدة، وكانت حدودها الشمالية تصل إلى طرطوس (في سوريا الآن)بينما تصل حدودها الجنوبية إلى مدينة جبيل في لبنان، أما قاعدة الإمارة فهي مدينة طرابلس بالطبع.
-3- الإمارة الثالثة هي أنطاكية ، وأميرها هو تانكرد النورماني، وقد توسعت جنوبًا حتى وصلت إلى بانياس ، وشمالاً إلى إقليم قليقية ، وتوسعت أيضًا شرقًا حتى وصلت إلى مشارف حلب، وكان غالب الجيش في هذه الإمارة من النورمان الإيطاليين .
حدود مملكة بيت المقدس وباقي الدول الصليبية في المشرق عام 1035.
-4- الإمارة الرابعة هي إمارة الرها ، وهي أول الإمارات تأسيسًا ، ويقودها بلدوين دي بورج ، وتضم عدة مدن في جنوب تركيا وشمال سوريا حول نهر الفرات ، وأهم هذه المدن إلى جوار الرها مدينة سميساط وسروج والبيرة، إضافةً إلى مدينة تل باشر التي يقودها جوسلين دي كورتناي الشخصية الثانية في إمارة الرها .
وهكذا استقرت هذه الكيانات الأربع في عمق العالم الإسلامي، ودام هذا الاستقرار عشرات السنين كما سيتبين لنا من سياق القصة.
ثانيًا: الوضع الذي وصفناه الآن لا شك أنه أشد وطأة من الوضع الذي نعاني منه الآن في فلسطين؛
1- - فالوضع أيام الحروب الصليبية لم يكن مقتصرًا على دولة واحدة ، بل تأسست أربع دول .
-2- ولم يكن الاحتلال مقصورًا على فلسطين وحدها ، بل شمل فلسطين ولبنان وسوريا وتركيا .
-3- ولم يقبع الاحتلال هناك فترة قصيرة من الزمن إنما دام مائتي سنة .
4- - كما أن المذابح التي رأيناها في احتلال المدن الإسلامية أكثر بكثير من كل ما نشاهده الآن في المدن الفلسطينية .
-5- كما أن حالة الفُرقة بين المسلمين أشد وأعتى مما نعانيه الآن؛ فلو نظرت إلى سوريا فقط فإننا سنجدها في زمان الحروب الصليبية مقسمة إلى عدة إمارات منفصلة ، منها حلب وحمص ودمشق وحماة وشيزر وبانياس وغيرها .
ومع كون الوضع مترديًا على هذه الصورة فإنَّ المسلمين - كما سيتبين لنا - استطاعوا الخروج من
الأزمة ولو بعد حين، وعلى
هذا فإذا كانت أزمتنا الآن أهون فخروجنا منها
أسهل بإذن الله، وحتمًا - كما يثبت لنا التاريخ - يظهر بعد الليل الطويل فجرٌ سعيد.
ثالثًا: رأينا الأخطاء
المتتالية التي ارتكبها الجيل الذي عاصر الحروب الصليبية، وهذه الأخطاء المركبَّة لم يقوموا هم وحدهم بدفع ثمنها بعد ذلك، بل دفعتها أجيال متعاقبة،
ولسنوات طويلة؛ فقد شاهدوا
على سبيل المثال تقاعسًا من المسلمين عن نصرة طرابلس المحاصرة، وظل
الحصار كما رأينا سبع سنوات
متصلة ثم سقطت طرابلس، واستمر هذا السقوط مائة وخمسًا وثمانين سنة !! أي دفع الثمن ستة أو سبعة
أجيال متلاحقة، مما يبين
أن حجم الخطأ الذي يرتكبه المرء قد يكون له ذيول وعواقب تضاعف من أثره ونتائجه، وعليه فلا ينبغي أبدًا أن يستهين الإنسان بالذنب أو الخطأ، ولعل المسلمين تخيلوا عند سقوط طرابلس أن هذا شيء عارض لن
يستمر سوى عام أو عامين،
ثم كانت العواقب كما رأينا.
وقد حذَّر رسولنا الكريم أن هذا قد يحدث مع الكلمة الواحدة، فكيف بالفعل والأفعال ! يقول رسول الله: "إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ لَا يَرَى بِهَا بَأْسًا يَهْوِي بِهَا سَبْعِينَ خَرِيفًا فِي النَّارِ".
رابعًا: رأينا في المواقف السابقة تعاونًا مشينًا بين بعض القواد المسلمين كرضوان من ناحية أو جاولي من ناحية أخرى مع جيوش الصليبيين، وفي لحظة من اللحظات ظنَّ هؤلاء أن عزتهم ستكون بالارتباط بالقوة العسكرية الأولى في المنطقة، ثم رأينا سريعًا أن الصليبيين يتنكرون لهذا التعاون، وينقلبون على الزعماء المسلمين عند أول فرصة، ويبيعونهم بأبخس ثمن، فقد أدَّوا دورهم في مرحلة، ثم لم يعد لهم قيمة ولا نفع ! لقد رأينا تانكرد لا يكتفي بالتنكر لعهده وحلفه مع رضوان، بل رأيناه يقف بجيشه على أبواب حلب يقصفها ويحاصرها ويمنعها الطعام والشراب، ويُمعِن في إذلال رضوان فيفرض عليه الجزية، ويسخر منه ويفضحه بين الناس !
خامسًا: الزعماء المساكين لم يمروا بقلوبهم أو حتى بعيونهم على قول الله تعالى: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا ( وأقول لهم: إن لم يكن لكم اعتبارٌ بكتاب الله ولا سنة رسوله فليكن لكم اعتبارٌ بالتاريخ، وليست هذه صورًا نادرة نحكيها، إنما هي السنة المطردة، والواقع المتكرر !
سادسًا : إذا كنا رأينا هذه الصورة المتخاذلة من حكام الشام في هذه الفترة العصيبة، فلا بد أن نتساءل: أين علماء الشام ؟! لقد اختفى إلى حد كبير، وأحيانًا إلى حد مطلق مَن يأمر بالجهاد أو المقاومة أو التحرير، سواء في دمشق أو في حلب أو في غيرهم ا!أين العلماء ؟!
واقع الأمر أنه كما ذكرنا قبل ذلك فقد فُرِّغت الشام من علمائها في أثناء الاحتلال العبيدي السابق لفترة حكم سلاجقة الشام، ولكن - للأسف الشديد - عند ولاية سلاجقة الشام بداية من تتش بن ألب أرسلان أو ولديه رضوان ودقاق كان التغيير في الوضع سياسيًّا فقط، لكن بقي للإسماعيلية الباطنية وجود كبير في داخل المدن الشامية ، وعلى رأسها حلب ودمشق ، ولكن مر بنا الظهور الإسماعيلي الشيعي الفج في حلب ودورهم في التأثير في رضوان حاكمها ، ولكن هذا لم يكن في حلب وحدها ، إنما رأيناه في دمشق أيضً ا!! نعم لم نجد التعاطف الذي أبداه رضوان تجاه الإسماعيلية، ولكن رأينا بدلاً من التعاطف خوفًا وجبنًا من الباطنية الإسماعيلية أفضى إلى نفس النتيجة، فقد اشتهر الباطنية بحوادث الاغتيال والمؤامرات؛ ولذلك آثر الحكام المسلمون السلامة، ولم يتقدموا بأي جهد لتغيير الواقع الأليم، حتى رأينا تسلطًا من زعماء الإسماعيلية على مجريات الأمور في دمشق إلى الدرجة التي جعلت حاكمًا مثل طغتكين - على حُبِّه للجهاد ورغبته في نصرة السنة - لا يستطيع الوقوف في وجه الشيعة الإسماعيلية، فأعطاهم قلعة بانياس بناءً على طلبهم ليتحصنوا بها !
ولكن المؤلم حقًّا أن من بقي من العلماء السنة في داخل دمشق لم تكن له القدرة على الكلام أو التعليم، ولم تكن عندهم الجرأة على النصح والإرشاد، ولما استفحل أمر بهرام داعي الباطنية في دمشق، وانتشر فساده ماذا فعل العلماء؟! يقول ابن القلانسي في وصفه حال العلماء آنذاك: "وضاقت صدور العلماء وأرباب الدين وأهل السنة، ولم يتجاسروا على الكلام خوفًا من أسرهم وقتلهم". آهِ لو خاف العَالِم وسكت ! آه لو تعلل العالِم بعذر فاعتزل ! آه لو تمسك العالِم بدنياه فأضاع دينه ودين الناس !
لعل هذه الملاحظة - أعني سكوت العلماء وخوفهم على حياتهم - من أهم أسباب الأزمة التي رأيناها أيام الحروب الصليبية، ومن أهم أسباب الضعف في أي فترة من فترات سقوط الأمة الإسلامية؛ فالعلماء ورثة الأنبياء، وهم قادة الأمة الحقيقيون، فلو ضلُّوا وضاعوا فكيف يُرجى للأمة هداية ؟!
سابعا:وإذا كنا رصدنا في هذا التحليل القصور الشديد الذي كان عليه الحكام والعلماء ، فإن هذا لا يعني أن نعفي الشعوب من المسئولية !
أين الشعب في الشام ؟!أين شعب حلب ودمشق وحماة وحمص ؟!أين شعب بيروت وصيدا وحيفا وعكا ؟! أين أولئك الذين لم يصابوا في دينهم ومقدساتهم فقط، بل أصيبوا في أموالهم وأملاكهم وأعراضهم ؟!إن الشعب الذي يسكت على مثل هذا الذل شعبٌ لا يستحق الحياة !
إن الحاكم لا شيء بغير شعبه، وإلا فكيف كان يقاتل رضوان إلى جوار الصليبيين ؟! هل كان يقاتل بمفرده، أم إنه يقاتل بجيش كبير، ومن وراء الجيش وزراء وأمراء، ومعهم علماء وقضاة وفقهاء ومدرسون، ومن ورائهم موظفون وتجار وفلاحون ؟! ألم يكن في بيت كل واحد من هؤلاء زوجة وأم وأخت وبنت ؟! ألم يسمع أيُّ واحد من هؤلاء كلمة نصح، أو على الأقل كلمة تعجب: لماذا تفعلون هذه الأفعال ؟!
إن المصيبة كانت عامة ! والخطأ مركب، ولا تحدث مثل هذه الكوارث العامة، والنكبات الهائلة إلا بتقصير عام من شتى طوائف الشعب من أعلى سلطة فيه إلى أقل عامل من عمال المسلمين، إلا من رحمه الله، وقليل ما هم !!
ثامنا : رأينا في هذه المواقف أيضًا أن الدولة العبيدية قد باعت القضية تمامًا، فبعد المحاولات الثلاث التي قامت بها عند مدينة الرملة توقفت جهودهم تمامًا لاسترداد فلسطين، أو على الأقل لتأمين الحدود الشرقية للدولة المصرية ، وهذا كان أمرًا متوقعًا منهم بعد أن شاهدنا تخاذلهم في القدس ، وشاهدنا تخاذلهم في عكا ، وشاهدنا استغلالهم للموقف في طرابلس لحسابهم وليس للمصلحة العامة للمسلمين ، وشاهدنا أيضًا تخاذل علمائهم في حلب ودمشق، بل وشاهدنا الفظائع التي إرتكبها الباطنيون الإسماعيلية هنا وهناك !إن هذا كله يثبت أن هذا الدين لا ينصره مختل العقيدة أو مضطرب الفكر، إن هذا الدين عزيز ثمين، ولن يحمل رايته إلا المخلصون الفاهمون !
تاسعا:مع كل هذا الظلام الذي رأيناه في قصة بداية الاحتلال إلا أن النور لا ينعدم ! فقد شاهدنا أمثلة تدل على أن الخير في الأمة لا ينقطع، والهمة لا تموت، نعم قد تضعف، ولكنها أبدًا لا تموت؛ ولعل رؤيتنا لسقمان بن أرتق وهو يذهب إلى الجهاد في حالته المرضية الشديدة دليلٌ على هذا الكلام، كما رأينا في موقعة البليخ وما ظهر فيها من جهاد وتجرد لله، إضافةً إلى حملات عسكرية متكررة من طغتكين أمير دمشق الذي كان - على سلبياته - محبًّا للجهاد، محببًا عند الرعية، راغبًا في الخير، نادمًا على أخطائه التي لعل من أبرزها سكوته على الإسماعيلية بل إعطاءهم قلعة بانياس، ومع ذلك فإنه عند موته أوصى ابنه بوري بن طغتكين الذي تولى الأمر من بعده بأن يُعلِي من شأن العلماء السُّنَّة، وأن يتمسك بالجهاد في سبيل الله.
إن الأمثلة التي رأيناها في هذه الفترة لم تكن هي الأمثلة الخالصة التي يتحقق التغيير على يدها، ولكنها كانت أمثلة طيبة حملت الراية لمن بعدها، تمهيدًا لظهور شخصية تامة التجرد لله؛ ليُنزِل الله عليها نصره.
عاشرا: مع شدة الألم الذي اعتصر قلوبنا لسقوط المدن الإسلامية الواحدة تلو الأخرى، ولذبح الآلاف من المسلمين، فإنَّ هذه الغمة كانت سببًا في توضيح الرؤية للشعوب ولنا، فبعض الحكام يُدلِّس على شعبه؛ مستغلاً إعلامه وجنوده ومقربيه، وموهمًا الجميع أنه يتحلى بالحكمة، ويتصف بالكياسة، ويتميز بحسن الرأي والقرار، بل لعله يتظاهر بحب الشريعة، وبذل النفس من أجل الدين ! لكن تأتي مثل هذه الأحداث المحزنة فتكشف الأوراق، وتبدي الحقائق، ويعرف الناس الغَثَّ من السمين، والصالح من الطالح، ولعل هذا من أبرز فوائد هذه الكوارث، ومن أعظم نتائجها، وصدق الله إذ يقول)لِيَمِيزَ الْخَبِيثَ الله مِنَ الطَّيِّبِ (
حادي عاشرًا: برز لنا بوضوح في هذه الأحداث أن الخير سيأتي - غالبًا - من جهة شمال العراق، وتحديدًا من مدينة الموصل، وإذا كنا قد رأينا حملات كربوغا وجكرمش، فإننا سنرى ما هو أعظم منها على يد مودود بن التونتكين، ثم سيكون الظهور الأجلُّ لعماد الدين زنكي ونور الدين محمود وصلاح الدين الأيوبي، وكلهم سيأتي من هذه المناطق، وقد ذكرنا قبل ذلك مبررات هذه الخيرية في هذه المنطقة في هذا التوقيت، ولكن الوقفة المهمة التي نريد أن نلفت الأنظار إليها هي أن التغيير قد يأتي من مكان بعيد جدًّا عن الأحداث، فقد رأيناه هنا يأتي من شمال العراق بدلاً من الشام أو فلسطين أو آسيا الصغرى، وهي الأماكن المنكوبة في القصة، ورأيناه في قصة التتار يأتي من مصر، مع أن التتار لم يدخلوا مصر أصلاً، ورأينا إصلاح أوضاع الأندلس بعد أن كاد الإسلام ينتهي فيها، يأتي على يد عبد الرحمن الداخل صقر قريش القادم من دمشق، وهكذا؛ وعلى ذلك فعند وقوع مثل هذه النكبات لا ينبغي لنا عند التحليل والتقييم أن نقصر النظرة على البلد المنكوب، بل نوسع النظر لنشمل العالم الإسلامي بكامله، وحتمًا عندها سنرى النور هنا أو هناك، وهذه هي عظمة هذا الدين
وقد حذَّر رسولنا الكريم أن هذا قد يحدث مع الكلمة الواحدة، فكيف بالفعل والأفعال ! يقول رسول الله: "إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ لَا يَرَى بِهَا بَأْسًا يَهْوِي بِهَا سَبْعِينَ خَرِيفًا فِي النَّارِ".
رابعًا: رأينا في المواقف السابقة تعاونًا مشينًا بين بعض القواد المسلمين كرضوان من ناحية أو جاولي من ناحية أخرى مع جيوش الصليبيين، وفي لحظة من اللحظات ظنَّ هؤلاء أن عزتهم ستكون بالارتباط بالقوة العسكرية الأولى في المنطقة، ثم رأينا سريعًا أن الصليبيين يتنكرون لهذا التعاون، وينقلبون على الزعماء المسلمين عند أول فرصة، ويبيعونهم بأبخس ثمن، فقد أدَّوا دورهم في مرحلة، ثم لم يعد لهم قيمة ولا نفع ! لقد رأينا تانكرد لا يكتفي بالتنكر لعهده وحلفه مع رضوان، بل رأيناه يقف بجيشه على أبواب حلب يقصفها ويحاصرها ويمنعها الطعام والشراب، ويُمعِن في إذلال رضوان فيفرض عليه الجزية، ويسخر منه ويفضحه بين الناس !
خامسًا: الزعماء المساكين لم يمروا بقلوبهم أو حتى بعيونهم على قول الله تعالى: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا ( وأقول لهم: إن لم يكن لكم اعتبارٌ بكتاب الله ولا سنة رسوله فليكن لكم اعتبارٌ بالتاريخ، وليست هذه صورًا نادرة نحكيها، إنما هي السنة المطردة، والواقع المتكرر !
سادسًا : إذا كنا رأينا هذه الصورة المتخاذلة من حكام الشام في هذه الفترة العصيبة، فلا بد أن نتساءل: أين علماء الشام ؟! لقد اختفى إلى حد كبير، وأحيانًا إلى حد مطلق مَن يأمر بالجهاد أو المقاومة أو التحرير، سواء في دمشق أو في حلب أو في غيرهم ا!أين العلماء ؟!
واقع الأمر أنه كما ذكرنا قبل ذلك فقد فُرِّغت الشام من علمائها في أثناء الاحتلال العبيدي السابق لفترة حكم سلاجقة الشام، ولكن - للأسف الشديد - عند ولاية سلاجقة الشام بداية من تتش بن ألب أرسلان أو ولديه رضوان ودقاق كان التغيير في الوضع سياسيًّا فقط، لكن بقي للإسماعيلية الباطنية وجود كبير في داخل المدن الشامية ، وعلى رأسها حلب ودمشق ، ولكن مر بنا الظهور الإسماعيلي الشيعي الفج في حلب ودورهم في التأثير في رضوان حاكمها ، ولكن هذا لم يكن في حلب وحدها ، إنما رأيناه في دمشق أيضً ا!! نعم لم نجد التعاطف الذي أبداه رضوان تجاه الإسماعيلية، ولكن رأينا بدلاً من التعاطف خوفًا وجبنًا من الباطنية الإسماعيلية أفضى إلى نفس النتيجة، فقد اشتهر الباطنية بحوادث الاغتيال والمؤامرات؛ ولذلك آثر الحكام المسلمون السلامة، ولم يتقدموا بأي جهد لتغيير الواقع الأليم، حتى رأينا تسلطًا من زعماء الإسماعيلية على مجريات الأمور في دمشق إلى الدرجة التي جعلت حاكمًا مثل طغتكين - على حُبِّه للجهاد ورغبته في نصرة السنة - لا يستطيع الوقوف في وجه الشيعة الإسماعيلية، فأعطاهم قلعة بانياس بناءً على طلبهم ليتحصنوا بها !
ولكن المؤلم حقًّا أن من بقي من العلماء السنة في داخل دمشق لم تكن له القدرة على الكلام أو التعليم، ولم تكن عندهم الجرأة على النصح والإرشاد، ولما استفحل أمر بهرام داعي الباطنية في دمشق، وانتشر فساده ماذا فعل العلماء؟! يقول ابن القلانسي في وصفه حال العلماء آنذاك: "وضاقت صدور العلماء وأرباب الدين وأهل السنة، ولم يتجاسروا على الكلام خوفًا من أسرهم وقتلهم". آهِ لو خاف العَالِم وسكت ! آه لو تعلل العالِم بعذر فاعتزل ! آه لو تمسك العالِم بدنياه فأضاع دينه ودين الناس !
لعل هذه الملاحظة - أعني سكوت العلماء وخوفهم على حياتهم - من أهم أسباب الأزمة التي رأيناها أيام الحروب الصليبية، ومن أهم أسباب الضعف في أي فترة من فترات سقوط الأمة الإسلامية؛ فالعلماء ورثة الأنبياء، وهم قادة الأمة الحقيقيون، فلو ضلُّوا وضاعوا فكيف يُرجى للأمة هداية ؟!
سابعا:وإذا كنا رصدنا في هذا التحليل القصور الشديد الذي كان عليه الحكام والعلماء ، فإن هذا لا يعني أن نعفي الشعوب من المسئولية !
أين الشعب في الشام ؟!أين شعب حلب ودمشق وحماة وحمص ؟!أين شعب بيروت وصيدا وحيفا وعكا ؟! أين أولئك الذين لم يصابوا في دينهم ومقدساتهم فقط، بل أصيبوا في أموالهم وأملاكهم وأعراضهم ؟!إن الشعب الذي يسكت على مثل هذا الذل شعبٌ لا يستحق الحياة !
إن الحاكم لا شيء بغير شعبه، وإلا فكيف كان يقاتل رضوان إلى جوار الصليبيين ؟! هل كان يقاتل بمفرده، أم إنه يقاتل بجيش كبير، ومن وراء الجيش وزراء وأمراء، ومعهم علماء وقضاة وفقهاء ومدرسون، ومن ورائهم موظفون وتجار وفلاحون ؟! ألم يكن في بيت كل واحد من هؤلاء زوجة وأم وأخت وبنت ؟! ألم يسمع أيُّ واحد من هؤلاء كلمة نصح، أو على الأقل كلمة تعجب: لماذا تفعلون هذه الأفعال ؟!
إن المصيبة كانت عامة ! والخطأ مركب، ولا تحدث مثل هذه الكوارث العامة، والنكبات الهائلة إلا بتقصير عام من شتى طوائف الشعب من أعلى سلطة فيه إلى أقل عامل من عمال المسلمين، إلا من رحمه الله، وقليل ما هم !!
ثامنا : رأينا في هذه المواقف أيضًا أن الدولة العبيدية قد باعت القضية تمامًا، فبعد المحاولات الثلاث التي قامت بها عند مدينة الرملة توقفت جهودهم تمامًا لاسترداد فلسطين، أو على الأقل لتأمين الحدود الشرقية للدولة المصرية ، وهذا كان أمرًا متوقعًا منهم بعد أن شاهدنا تخاذلهم في القدس ، وشاهدنا تخاذلهم في عكا ، وشاهدنا استغلالهم للموقف في طرابلس لحسابهم وليس للمصلحة العامة للمسلمين ، وشاهدنا أيضًا تخاذل علمائهم في حلب ودمشق، بل وشاهدنا الفظائع التي إرتكبها الباطنيون الإسماعيلية هنا وهناك !إن هذا كله يثبت أن هذا الدين لا ينصره مختل العقيدة أو مضطرب الفكر، إن هذا الدين عزيز ثمين، ولن يحمل رايته إلا المخلصون الفاهمون !
تاسعا:مع كل هذا الظلام الذي رأيناه في قصة بداية الاحتلال إلا أن النور لا ينعدم ! فقد شاهدنا أمثلة تدل على أن الخير في الأمة لا ينقطع، والهمة لا تموت، نعم قد تضعف، ولكنها أبدًا لا تموت؛ ولعل رؤيتنا لسقمان بن أرتق وهو يذهب إلى الجهاد في حالته المرضية الشديدة دليلٌ على هذا الكلام، كما رأينا في موقعة البليخ وما ظهر فيها من جهاد وتجرد لله، إضافةً إلى حملات عسكرية متكررة من طغتكين أمير دمشق الذي كان - على سلبياته - محبًّا للجهاد، محببًا عند الرعية، راغبًا في الخير، نادمًا على أخطائه التي لعل من أبرزها سكوته على الإسماعيلية بل إعطاءهم قلعة بانياس، ومع ذلك فإنه عند موته أوصى ابنه بوري بن طغتكين الذي تولى الأمر من بعده بأن يُعلِي من شأن العلماء السُّنَّة، وأن يتمسك بالجهاد في سبيل الله.
إن الأمثلة التي رأيناها في هذه الفترة لم تكن هي الأمثلة الخالصة التي يتحقق التغيير على يدها، ولكنها كانت أمثلة طيبة حملت الراية لمن بعدها، تمهيدًا لظهور شخصية تامة التجرد لله؛ ليُنزِل الله عليها نصره.
عاشرا: مع شدة الألم الذي اعتصر قلوبنا لسقوط المدن الإسلامية الواحدة تلو الأخرى، ولذبح الآلاف من المسلمين، فإنَّ هذه الغمة كانت سببًا في توضيح الرؤية للشعوب ولنا، فبعض الحكام يُدلِّس على شعبه؛ مستغلاً إعلامه وجنوده ومقربيه، وموهمًا الجميع أنه يتحلى بالحكمة، ويتصف بالكياسة، ويتميز بحسن الرأي والقرار، بل لعله يتظاهر بحب الشريعة، وبذل النفس من أجل الدين ! لكن تأتي مثل هذه الأحداث المحزنة فتكشف الأوراق، وتبدي الحقائق، ويعرف الناس الغَثَّ من السمين، والصالح من الطالح، ولعل هذا من أبرز فوائد هذه الكوارث، ومن أعظم نتائجها، وصدق الله إذ يقول)لِيَمِيزَ الْخَبِيثَ الله مِنَ الطَّيِّبِ (
حادي عاشرًا: برز لنا بوضوح في هذه الأحداث أن الخير سيأتي - غالبًا - من جهة شمال العراق، وتحديدًا من مدينة الموصل، وإذا كنا قد رأينا حملات كربوغا وجكرمش، فإننا سنرى ما هو أعظم منها على يد مودود بن التونتكين، ثم سيكون الظهور الأجلُّ لعماد الدين زنكي ونور الدين محمود وصلاح الدين الأيوبي، وكلهم سيأتي من هذه المناطق، وقد ذكرنا قبل ذلك مبررات هذه الخيرية في هذه المنطقة في هذا التوقيت، ولكن الوقفة المهمة التي نريد أن نلفت الأنظار إليها هي أن التغيير قد يأتي من مكان بعيد جدًّا عن الأحداث، فقد رأيناه هنا يأتي من شمال العراق بدلاً من الشام أو فلسطين أو آسيا الصغرى، وهي الأماكن المنكوبة في القصة، ورأيناه في قصة التتار يأتي من مصر، مع أن التتار لم يدخلوا مصر أصلاً، ورأينا إصلاح أوضاع الأندلس بعد أن كاد الإسلام ينتهي فيها، يأتي على يد عبد الرحمن الداخل صقر قريش القادم من دمشق، وهكذا؛ وعلى ذلك فعند وقوع مثل هذه النكبات لا ينبغي لنا عند التحليل والتقييم أن نقصر النظرة على البلد المنكوب، بل نوسع النظر لنشمل العالم الإسلامي بكامله، وحتمًا عندها سنرى النور هنا أو هناك، وهذه هي عظمة هذا الدين